بحـث
المواضيع الأخيرة
نوفمبر 2024
الأحد | الإثنين | الثلاثاء | الأربعاء | الخميس | الجمعة | السبت |
---|---|---|---|---|---|---|
1 | 2 | |||||
3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 |
10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 |
17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 |
24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 |
النظام السعودي في ميزان الاسلام -7- واجبات الأمة تجاه النظام
صفحة 1 من اصل 1
النظام السعودي في ميزان الاسلام -7- واجبات الأمة تجاه النظام
النظام السعودي في ميزان الاسلام
-7-
واجبات الأمة تجاه النظام
لقد سبقت مناقشة الوضع الشرعي لنظام الحكم الحالي من خلال استقراء الأدلة الشرعية وأقوال العلماء وإنزال ذلك على واقع ذلك النظام وممارساته، وهذه المناقشة ليست من باب الترف الفكري والجدل البيزنطي، بل يترتب عليها إلزامات وأحكام شرعية عديدة على المسلم، فالمسلم يدين الله كما أراد الله، وهذا لا يكون إلا إذا توخى المسلم قول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم وما يخصه منه من الإلزامات الشرعية، وهذه طريقة الإسلام، أما تقليد الأحبار والرهبان وإلقاء التبعة عليهم فهذه طريقة اليهود والنصارى وليست طريقة المسلمين، فنحن متعبدون بما أراد الله سبحانه، وأراد رسوله صلى الله عليه وسلم، ونتبع من العلماء من كانوا موقعين حقيقة عن الله، ومن وافق مرادهم مراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم، وأما من جادل عن الطواغيت ودافع عن الظملة أو تهرّب عن المسؤولية الشرعية بترديد العموميات غير المنضبطة شرعاً في الواقع المراد، أو تعلّق ببعض شواهد التاريخ التي أجمعت الأمة أنها ليست دليلاً شرعياً، فهؤلاء ضلوا وأضلوا ولن يصمد جدلهم أمام قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم، والمسلم مأمور على كل حال إذا عرض له أمر أن يجتهد لدينه ويحرص على إصابة الحق فيه عملاً بالكتاب والسنة على طريقة فهم السلف الصالح، فتحديد الإلزامات الشرعية المترتبة على فهم الواقع يجب أن يكون منضبطاً تماماً بالضوابط الشرعية. [/size]
ومادام الحديث عن الإلزامات الشرعية فإن العلماء أمام قضية النظام ينقسمون إلى ثلاثة أصناف:
الصنف الأول: ترجح لديه عدم شرعية النظام لتعطيله الكامل لمقاصد الإمامة في الإسلام، بل لعمله بضدها، وعلى الخصوص لارتكابه أكبر سبب من أسباب عدم الشرعية، وهو سن التشريعات الكفرية وإلزام الناس بها.
الصنف الثاني: يوافق على كل ما قيل عن نقض مقاصد الإمامة في الإسلام بتفاصيلها المذكورة سابقاً، لكنه يتوقف عند ذلك ويتحرج من أن يستنتج بناءً على ذلك أن النظام غير شرعي بسبب فهمه لبعض الأحاديث وأقوال العلماء التي تشدد على وجوب الطاعة حتى للإمام الفاجر والظالم.
الصنف الثالث: لا يوافق أصلاً على ما قيل كله، ويدعي أن النظام قائم بما يستطيع من الواجبات الشرعية، وأنه حريص على خدمة الإسلام والمسلمين والدفاع عن الدين، وأن ما يبدو في أعين الناس من جرائم هي حقيقة من الاجتهاد الذي قد يخطيء فيه الإمام، وما عدا ذلك فهو من الفسق الفردي والظلم البشري الذي لا مناص منه، والذي لا يقدح أبداً في الشرعية أو في أركان الإمامة ومقاصدها.
ورداً على مزاعم الصنف الثالث، فقد ثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن هذا الصنف من العلماء وطلبة العلم يمارس جريمة أعظم من جريمة الحاكم نفسه، لما يصنعونه لدى الأمة من تلبيس وتضليل وتعطيل لكل الإلزامات الشرعية المترتبة على تعطيل فروض الكفاية، وهم بتصرفهم هذا أقرب إلى التعاون على الإثم والعدوان، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (... ولا يحل للرجل أن يكون عوناً على ظلم، فإن التعاون نوعان، الأول: تعاون على البر والتقوى من الجهاد وإقامة الحدود، واستيفاء الحقوق وإعطاء المستحقين، فهذا مما أمر الله به ورسوله، ومن أمسك عنه خشية أن يكون من أعوان الظلمة فقد ترك فرضاً من الأعيان، أو على الكفاية متوهماً أنه متورع، وما أكثر ما يشتبه الجبن والفشل بالورع، إذ كل منهما كف وإمساك، والثاني: تعاون على الإثم والعدوان، كالإعانة على دم معصوم، أو أخذ مال معصوم، أو ضرب من لا يستحق الضرب، ونحو ذلك فهذا الذي حرمه الله ورسوله ...)(1)، ومن المعلوم أن إصدار الفتاوى والبيانات لتبرير جرائم السلطان في حق الدعاة وسجنهم وإيقافهم وفصلهم واتهامهم بسوء النية، وتضليل الأمة في تزكية الحاكم، فضلاً عن السكوت عن جرائمه وتبديله للشرائع أخطر بكثير من الإعانة على دم معصوم أو ضرب من لا يستحق الضرب، وهو قطعاً من التعاون على الاثم والعدوان، والأولى أن ينطبق عليه كلام شيخ الإسلام رحمه الله، والعالم من هؤلاء جريمته أعظم لأنه يعلم الواقع ويعلم الشرع، وإذا استمر في الخصومة واستمات في الجدال في الدفاع عن الباطل الذي ثبت ثبوتاً لاشك فيه فالأحرى أن يكون مقصوداً بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث عن بن عمر: “ومن خاصم في باطل وهو يعلم لم يزل في سخط الله حتى ينزع”(2)، وإصرار هؤلاء على التشبث بالدفاع عن الظلمة وتبرير جرائمهم هو إصرار على كبيرة، والإصرار على الكبيرة أمر عظيم خاصة إذا ثبتت الحجة على من يرتكبها، فهذا الصنف هو من أعوان الظلمة بل ربما كانوا من الظلمة أنفسهم إذا كانوا في منصب القضاء أو الإفتاء أو السلطة وأعانوا الظالم بفتواهم وقضائهم أو بسلطتهم ومركزهم، وقد سأل أحد السجانين الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله إن كان من أعوان الظلمة؟ فقال له الإمام أحمد: "بل أنت من الظلمة أنفسهم"، وقد ذكر أصحاب الحديث من حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “سيكون بعدي أمراء فمن دخل عليهم وصدّقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه، وليس بوارد على الحوض، ومن لم يدخل عليهم ولم يعنهم على ظلمهم ولم يقصدهم بكذبهم فهو مني وأنا منه وهو وارد على الحوض”(3)، فهذا هو القول في الصنف الثالث وفقاً للأدلة الشرعية.
وأما الصنف الثاني: فلهم شبهة لما جاء في الأحاديث وأقوال العلماء من وجوب طاعة الأمير، ولكن انكشاف الواقع واستفاضة الأدلة كفيل بتغيير موقفهم.
أما عن الإلزامات الشرعية المترتبة على فهم واقع النظام فيمكن أن تبسط كالتالي:
أولاً: ما يجب على أعيان الناس وهو الإنكار بالقلب، وقد ثبت أن ذلك فرض على الأعيان في الحديث الصحيح الصريح بقوله صلى الله عليه وسلم: “من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فمن لم يستطع فبلسانه فمن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان”(4)، وفي رواية “وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل”، وقد نقل ابن حزم في كتاب الإجماع أن الأمة أجمعت على أن الإنكار بالقلب من فروض الأعيان(5)، وقرن شيخ الإسلام ابن تيمية بين الإنكار بالقلب وأصل الإيمان، فذكر أن انعدام الإنكار بالقلب بالكلية يُضاد الإيمان واستدل على ذلك بنفس الحديث قال شيخ الإسلام: (... فأما القلب فيجب بكل حال إذ لا ضرر في فعله ومن لم يفعله فليس بمؤمن، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: “وذلك أدنى أو أضعف الإيمان” وقال: “وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل)(6).
وقضية الإنكار بالقلب نفسها لها مستلزماتها فلا يتحقق الإنكار بالقلب إلا بانعكاس ذلك على عدم تأييد المنكر والرضا به، فلا يجوز أن يدعي مدّعٍ أنه قد أنكر بقلبه، وهو يساير الظلمة ويعينهم ويبش لهم ويحضر مجالسهم دون أن ينكر عليهم، وربما دافع ونافح وجادل عنهم، فهذا كله يتنافى مع دعوى الإنكار بالقلب ويقدح في إيمان المرء، ففي الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: “إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فأنكرها كمن غاب عنها، ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها”(7)، ورغم أن الإنكار بالقلب ضمان السلامة في الآخرة إلا أنه لا يضمن النجاة من عذاب الدنيا المترتب على عدم تغيير المنكر، وهذا مقتضى تفريقه صلى الله عليه وسلم بين من أنكر فسلم ومن كره فبرئ، ففي الصحيح عن أم سلمة رضي الله عنها، قال صلى الله عليه وسلم: “ستكون أمراء فتعرفون وتنكرون فمن كره فقد برئ ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي وتابع”(، وهو كذلك مقتضى قصة أصحاب السبت في قوله تعالى: "وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوماً الله مهلكهم أو معذبهم عذاباً أليماً قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون. فلما نسوا ما ذُكّروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون" (الأعراف 164/165) حيث سلم المنكرون وهلك أصحاب المنكر والساكتون على أصح القولين، وفي الحديث كذلك “أن الله عز وجل لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه، فإذا فعلوا ذلك عذب الله الخاصة والعامة”(9).
ثانياً: من فروض الأعيان كذلك الالتفاف حول العلماء الصادقين المصلحين المجاهدين الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، قال ابن العربي في شرح سنن الترمذي: (... إنما أراد عبدالله بن المبارك بالجماعة حيث يجتمع أركان الدين وذلك عند الإمام العادل أو الرجل العالم فهو الجماعة، وذلك صحيح، فإن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً وجماعته العلم والعدالة والله أعلم ...)(10)، وقال إمام الحرمين: (... فالأمور موكولة إلى العلماء، وحق على الخلائق على اختلاف طبقاتهم أن يرجعوا إلى علمائهم)(11).
[size=21]ثالثاً: أما فروض الكفاية في تلك القضية فمدارها على ثلاثة فرائض:
الأول: بيان الحق للناس وما يترتب عليه من كشف الباطل حتى لا يضلوا بممارسة الحكام وأهل النفوذ ويختلط عليهم الحق بالباطل.
الثاني: السعي لإقامة الفرائض الكفائية المعطلة بكل السبل المشروعة.
الثالث: السعي لتغيير المنكرات الظاهرة قدر الاستطاعة.
ففي وجوب البيان يقول تعالى: "وإذ أخد الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبينّنه للناس ولا تكتمونه" ( آل عمران، 187)، ويقول: "إن الذين يكتمون ما أنزل الله من البينات والهدى من بعد ما بينّاه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون" (البقرة، 159). قال ابن كثير رحمه الله في تفسيرها: (... هذا وعيد شديد لمن كتم ما جاءت به الرسل من الدلالات البينة على المقاصد الصحيحة والهدي النافع للقلوب من بعد ما بينه الله تعالى لعباده في كتبه التي أنزلها على رسله ...) وقال: (... فكما أن العالم يستغفر له كل شيء حتى الحوت في الماء والطير في الهواء، فهؤلاء بخلاف العلماء فيلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون ـ إلى قوله ـ ثم استثنى الله تعالى من هؤلاء من تاب إليه، فقال: "إلا الذين تابوا وأصلحوا وبيّنوا" أي رجعوا عما كانوا فيه، وأصلحوا أعمالهم وبيّنوا للناس ما كانوا يكتمونه)(12). وفي الصحيح عن أبي هريرة أنه قال (لولا آية في كتاب الله ما حدثت أحداً شيئاً وذكر الآية "إن الذين يكتمون ...") وجاء في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم “من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار”(13).
وقد تقدم الحديث في الصفحات السابقة عن وجوب قيام الأمة بأداء فروض الكفاية وانتداب جماعة لذلك حتى يسقط الاثم عن باقي الأمة، وكذا بالنسبة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتكررت الإشارة إلى أن تعطيل هذه الواجبات لا يترتب عليه إثم في الآخرة فحسب بل يترتب عليه عذاب الدنيا من الهلاك والدمار والكوارث.
ومن الحقائق التي يغفل عنها المسلمون وحتى طلبة العلم منهم أن الأمة بمجملها هي المكلفة بتحقيق المراد الشرعي، وليس الحاكم بنفسه، ذلك أن أصل التكليف هو للأمة، والحاكم حين ينفذ أوامر الله يطبق الإسلام كوكيل ونائب عن الأمة، والذين يشلّون دور الأمة في المسؤولية مخالفون لمنهج الإسلام الصريح في ذلك، ولذلك كان المردّ عند الاختلاف إلى الكتاب والسنة بفهم الأمة جميعاً وليس بفهم الحاكم، والذين ينزعون من الأمة حق الاحتساب على الحاكم هم أقرب إلى طريقة الذين يدعون عصمة الأئمة وأن الإمام حافظ للشرع، فرد عليهم شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة بقوله: (... والجواب من وجوه إحداها أنا لا نسلّم أنه يجب أن يكون الإمام حافظاً للشرع بل يجب أن تكون الأمة حافظة للشرع)(14)، وقال كذلك: (... ذلك لأن عصمة الأمة مغنية عن عصمته، وهذا مما ذكره العلماء في حكمة عصمة الأمة، قالوا: لأن من كان قبلهم من الأمم قبلنا كانوا إذا بدلوا دينهم بعث الله نبياً يبين الحق، وهذه الأمة لا نبي بعد نبيها فكانت عصمتها تقوم مقام النبوة)(15)، وقال كذلك: (وأما إجماع الأمة فهو حق، لا تجتمع الأمة ـ ولله الحمد ـ على ضلالة كما وصفها الله بذلك في الكتاب والسنة فقال: "كنتم خير أمة أخرجت للناس ... الآية" (آل عمران، 110)(16)، ولذلك كان من يحتج على دعاة الخير بأنهم مفرقون للكلمة فهو بالضرورة يدعو إلى الاجتماع على الباطل، وهذا خلاف ما أراد الله بقوله "واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا" (آل عمران، 103)، فالاعتصام لا يكون مجرداً بل لابد أن يكون بحبل الله، والذي يقول بالاعتصام المجرد أو تحت راية الوطنية أو القومية فمثله مثل العلمانيين الذين يدعون أن الدين يفرق بين أهل الوطن الواحد.
وبعد فهذه ليست إلا لفتات وإشارات ومداخل عامة والواجب على المسلم السعي بكل قدرته وما أتاه الله من قوة مادية أو جسدية أو نفوذ أو منصب أو علاقة أو صفة، أن يستثمرها في تحقيق فروض الكفاية والقضاء على المنكرات. ونسأل الله أن يعيننا في أداء فرائضه واجتناب نواهيه.
هوامش واجبات الأمة تجاه النظام
1) ابن تيمية، السياسة الشرعية،ص 56ـ57.
2) رواه أبو داوود في سننه.
ومادام الحديث عن الإلزامات الشرعية فإن العلماء أمام قضية النظام ينقسمون إلى ثلاثة أصناف:
الصنف الأول: ترجح لديه عدم شرعية النظام لتعطيله الكامل لمقاصد الإمامة في الإسلام، بل لعمله بضدها، وعلى الخصوص لارتكابه أكبر سبب من أسباب عدم الشرعية، وهو سن التشريعات الكفرية وإلزام الناس بها.
الصنف الثاني: يوافق على كل ما قيل عن نقض مقاصد الإمامة في الإسلام بتفاصيلها المذكورة سابقاً، لكنه يتوقف عند ذلك ويتحرج من أن يستنتج بناءً على ذلك أن النظام غير شرعي بسبب فهمه لبعض الأحاديث وأقوال العلماء التي تشدد على وجوب الطاعة حتى للإمام الفاجر والظالم.
الصنف الثالث: لا يوافق أصلاً على ما قيل كله، ويدعي أن النظام قائم بما يستطيع من الواجبات الشرعية، وأنه حريص على خدمة الإسلام والمسلمين والدفاع عن الدين، وأن ما يبدو في أعين الناس من جرائم هي حقيقة من الاجتهاد الذي قد يخطيء فيه الإمام، وما عدا ذلك فهو من الفسق الفردي والظلم البشري الذي لا مناص منه، والذي لا يقدح أبداً في الشرعية أو في أركان الإمامة ومقاصدها.
ورداً على مزاعم الصنف الثالث، فقد ثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن هذا الصنف من العلماء وطلبة العلم يمارس جريمة أعظم من جريمة الحاكم نفسه، لما يصنعونه لدى الأمة من تلبيس وتضليل وتعطيل لكل الإلزامات الشرعية المترتبة على تعطيل فروض الكفاية، وهم بتصرفهم هذا أقرب إلى التعاون على الإثم والعدوان، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (... ولا يحل للرجل أن يكون عوناً على ظلم، فإن التعاون نوعان، الأول: تعاون على البر والتقوى من الجهاد وإقامة الحدود، واستيفاء الحقوق وإعطاء المستحقين، فهذا مما أمر الله به ورسوله، ومن أمسك عنه خشية أن يكون من أعوان الظلمة فقد ترك فرضاً من الأعيان، أو على الكفاية متوهماً أنه متورع، وما أكثر ما يشتبه الجبن والفشل بالورع، إذ كل منهما كف وإمساك، والثاني: تعاون على الإثم والعدوان، كالإعانة على دم معصوم، أو أخذ مال معصوم، أو ضرب من لا يستحق الضرب، ونحو ذلك فهذا الذي حرمه الله ورسوله ...)(1)، ومن المعلوم أن إصدار الفتاوى والبيانات لتبرير جرائم السلطان في حق الدعاة وسجنهم وإيقافهم وفصلهم واتهامهم بسوء النية، وتضليل الأمة في تزكية الحاكم، فضلاً عن السكوت عن جرائمه وتبديله للشرائع أخطر بكثير من الإعانة على دم معصوم أو ضرب من لا يستحق الضرب، وهو قطعاً من التعاون على الاثم والعدوان، والأولى أن ينطبق عليه كلام شيخ الإسلام رحمه الله، والعالم من هؤلاء جريمته أعظم لأنه يعلم الواقع ويعلم الشرع، وإذا استمر في الخصومة واستمات في الجدال في الدفاع عن الباطل الذي ثبت ثبوتاً لاشك فيه فالأحرى أن يكون مقصوداً بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث عن بن عمر: “ومن خاصم في باطل وهو يعلم لم يزل في سخط الله حتى ينزع”(2)، وإصرار هؤلاء على التشبث بالدفاع عن الظلمة وتبرير جرائمهم هو إصرار على كبيرة، والإصرار على الكبيرة أمر عظيم خاصة إذا ثبتت الحجة على من يرتكبها، فهذا الصنف هو من أعوان الظلمة بل ربما كانوا من الظلمة أنفسهم إذا كانوا في منصب القضاء أو الإفتاء أو السلطة وأعانوا الظالم بفتواهم وقضائهم أو بسلطتهم ومركزهم، وقد سأل أحد السجانين الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله إن كان من أعوان الظلمة؟ فقال له الإمام أحمد: "بل أنت من الظلمة أنفسهم"، وقد ذكر أصحاب الحديث من حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “سيكون بعدي أمراء فمن دخل عليهم وصدّقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه، وليس بوارد على الحوض، ومن لم يدخل عليهم ولم يعنهم على ظلمهم ولم يقصدهم بكذبهم فهو مني وأنا منه وهو وارد على الحوض”(3)، فهذا هو القول في الصنف الثالث وفقاً للأدلة الشرعية.
وأما الصنف الثاني: فلهم شبهة لما جاء في الأحاديث وأقوال العلماء من وجوب طاعة الأمير، ولكن انكشاف الواقع واستفاضة الأدلة كفيل بتغيير موقفهم.
أما عن الإلزامات الشرعية المترتبة على فهم واقع النظام فيمكن أن تبسط كالتالي:
أولاً: ما يجب على أعيان الناس وهو الإنكار بالقلب، وقد ثبت أن ذلك فرض على الأعيان في الحديث الصحيح الصريح بقوله صلى الله عليه وسلم: “من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فمن لم يستطع فبلسانه فمن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان”(4)، وفي رواية “وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل”، وقد نقل ابن حزم في كتاب الإجماع أن الأمة أجمعت على أن الإنكار بالقلب من فروض الأعيان(5)، وقرن شيخ الإسلام ابن تيمية بين الإنكار بالقلب وأصل الإيمان، فذكر أن انعدام الإنكار بالقلب بالكلية يُضاد الإيمان واستدل على ذلك بنفس الحديث قال شيخ الإسلام: (... فأما القلب فيجب بكل حال إذ لا ضرر في فعله ومن لم يفعله فليس بمؤمن، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: “وذلك أدنى أو أضعف الإيمان” وقال: “وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل)(6).
وقضية الإنكار بالقلب نفسها لها مستلزماتها فلا يتحقق الإنكار بالقلب إلا بانعكاس ذلك على عدم تأييد المنكر والرضا به، فلا يجوز أن يدعي مدّعٍ أنه قد أنكر بقلبه، وهو يساير الظلمة ويعينهم ويبش لهم ويحضر مجالسهم دون أن ينكر عليهم، وربما دافع ونافح وجادل عنهم، فهذا كله يتنافى مع دعوى الإنكار بالقلب ويقدح في إيمان المرء، ففي الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: “إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فأنكرها كمن غاب عنها، ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها”(7)، ورغم أن الإنكار بالقلب ضمان السلامة في الآخرة إلا أنه لا يضمن النجاة من عذاب الدنيا المترتب على عدم تغيير المنكر، وهذا مقتضى تفريقه صلى الله عليه وسلم بين من أنكر فسلم ومن كره فبرئ، ففي الصحيح عن أم سلمة رضي الله عنها، قال صلى الله عليه وسلم: “ستكون أمراء فتعرفون وتنكرون فمن كره فقد برئ ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي وتابع”(، وهو كذلك مقتضى قصة أصحاب السبت في قوله تعالى: "وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوماً الله مهلكهم أو معذبهم عذاباً أليماً قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون. فلما نسوا ما ذُكّروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون" (الأعراف 164/165) حيث سلم المنكرون وهلك أصحاب المنكر والساكتون على أصح القولين، وفي الحديث كذلك “أن الله عز وجل لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه، فإذا فعلوا ذلك عذب الله الخاصة والعامة”(9).
ثانياً: من فروض الأعيان كذلك الالتفاف حول العلماء الصادقين المصلحين المجاهدين الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، قال ابن العربي في شرح سنن الترمذي: (... إنما أراد عبدالله بن المبارك بالجماعة حيث يجتمع أركان الدين وذلك عند الإمام العادل أو الرجل العالم فهو الجماعة، وذلك صحيح، فإن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً وجماعته العلم والعدالة والله أعلم ...)(10)، وقال إمام الحرمين: (... فالأمور موكولة إلى العلماء، وحق على الخلائق على اختلاف طبقاتهم أن يرجعوا إلى علمائهم)(11).
[size=21]ثالثاً: أما فروض الكفاية في تلك القضية فمدارها على ثلاثة فرائض:
الأول: بيان الحق للناس وما يترتب عليه من كشف الباطل حتى لا يضلوا بممارسة الحكام وأهل النفوذ ويختلط عليهم الحق بالباطل.
الثاني: السعي لإقامة الفرائض الكفائية المعطلة بكل السبل المشروعة.
الثالث: السعي لتغيير المنكرات الظاهرة قدر الاستطاعة.
ففي وجوب البيان يقول تعالى: "وإذ أخد الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبينّنه للناس ولا تكتمونه" ( آل عمران، 187)، ويقول: "إن الذين يكتمون ما أنزل الله من البينات والهدى من بعد ما بينّاه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون" (البقرة، 159). قال ابن كثير رحمه الله في تفسيرها: (... هذا وعيد شديد لمن كتم ما جاءت به الرسل من الدلالات البينة على المقاصد الصحيحة والهدي النافع للقلوب من بعد ما بينه الله تعالى لعباده في كتبه التي أنزلها على رسله ...) وقال: (... فكما أن العالم يستغفر له كل شيء حتى الحوت في الماء والطير في الهواء، فهؤلاء بخلاف العلماء فيلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون ـ إلى قوله ـ ثم استثنى الله تعالى من هؤلاء من تاب إليه، فقال: "إلا الذين تابوا وأصلحوا وبيّنوا" أي رجعوا عما كانوا فيه، وأصلحوا أعمالهم وبيّنوا للناس ما كانوا يكتمونه)(12). وفي الصحيح عن أبي هريرة أنه قال (لولا آية في كتاب الله ما حدثت أحداً شيئاً وذكر الآية "إن الذين يكتمون ...") وجاء في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم “من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار”(13).
وقد تقدم الحديث في الصفحات السابقة عن وجوب قيام الأمة بأداء فروض الكفاية وانتداب جماعة لذلك حتى يسقط الاثم عن باقي الأمة، وكذا بالنسبة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتكررت الإشارة إلى أن تعطيل هذه الواجبات لا يترتب عليه إثم في الآخرة فحسب بل يترتب عليه عذاب الدنيا من الهلاك والدمار والكوارث.
ومن الحقائق التي يغفل عنها المسلمون وحتى طلبة العلم منهم أن الأمة بمجملها هي المكلفة بتحقيق المراد الشرعي، وليس الحاكم بنفسه، ذلك أن أصل التكليف هو للأمة، والحاكم حين ينفذ أوامر الله يطبق الإسلام كوكيل ونائب عن الأمة، والذين يشلّون دور الأمة في المسؤولية مخالفون لمنهج الإسلام الصريح في ذلك، ولذلك كان المردّ عند الاختلاف إلى الكتاب والسنة بفهم الأمة جميعاً وليس بفهم الحاكم، والذين ينزعون من الأمة حق الاحتساب على الحاكم هم أقرب إلى طريقة الذين يدعون عصمة الأئمة وأن الإمام حافظ للشرع، فرد عليهم شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة بقوله: (... والجواب من وجوه إحداها أنا لا نسلّم أنه يجب أن يكون الإمام حافظاً للشرع بل يجب أن تكون الأمة حافظة للشرع)(14)، وقال كذلك: (... ذلك لأن عصمة الأمة مغنية عن عصمته، وهذا مما ذكره العلماء في حكمة عصمة الأمة، قالوا: لأن من كان قبلهم من الأمم قبلنا كانوا إذا بدلوا دينهم بعث الله نبياً يبين الحق، وهذه الأمة لا نبي بعد نبيها فكانت عصمتها تقوم مقام النبوة)(15)، وقال كذلك: (وأما إجماع الأمة فهو حق، لا تجتمع الأمة ـ ولله الحمد ـ على ضلالة كما وصفها الله بذلك في الكتاب والسنة فقال: "كنتم خير أمة أخرجت للناس ... الآية" (آل عمران، 110)(16)، ولذلك كان من يحتج على دعاة الخير بأنهم مفرقون للكلمة فهو بالضرورة يدعو إلى الاجتماع على الباطل، وهذا خلاف ما أراد الله بقوله "واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا" (آل عمران، 103)، فالاعتصام لا يكون مجرداً بل لابد أن يكون بحبل الله، والذي يقول بالاعتصام المجرد أو تحت راية الوطنية أو القومية فمثله مثل العلمانيين الذين يدعون أن الدين يفرق بين أهل الوطن الواحد.
وبعد فهذه ليست إلا لفتات وإشارات ومداخل عامة والواجب على المسلم السعي بكل قدرته وما أتاه الله من قوة مادية أو جسدية أو نفوذ أو منصب أو علاقة أو صفة، أن يستثمرها في تحقيق فروض الكفاية والقضاء على المنكرات. ونسأل الله أن يعيننا في أداء فرائضه واجتناب نواهيه.
هوامش واجبات الأمة تجاه النظام
1) ابن تيمية، السياسة الشرعية،ص 56ـ57.
2) رواه أبو داوود في سننه.
3) أخرجه الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن حبان في صحيحه.
4) أخرجه الشيخان أبو داوود والترمذي عن أبي هريرة، انظر التاج الجامع للأصول 41/5.
5) ابن حزم، مراتب الإجماع، 176.
6) ابن تيمية، الفتاوى،127/28، وانظر ابن حزم في كتاب الإجماع.
7) رواه أبو داوود.
رواه مسلم، وانظر تعليق النووي على الحديث في مسلم بشرح النووي 226/12.
9) رواه أحمد بسند حسن.
10) ابن العربي، تحفة الأحوذي، 11/9.
11) إمام الحرمين الجويني، غياث الأمم. ص39.
12) ابن كثير، تفسير ابن كثير، 352/1ـ353.
13) رواه من أصحاب السنن أبو داوود، والترمذي والنسائي وأخرجه الإمام أحمد في مسنده.
14) ابن تيمية، منهاج السنة، 270/3.
15) المرجع السابق، 272/3.
16) ابن تيمية، الرسائل الكبرى، 191/1.
4) أخرجه الشيخان أبو داوود والترمذي عن أبي هريرة، انظر التاج الجامع للأصول 41/5.
5) ابن حزم، مراتب الإجماع، 176.
6) ابن تيمية، الفتاوى،127/28، وانظر ابن حزم في كتاب الإجماع.
7) رواه أبو داوود.
رواه مسلم، وانظر تعليق النووي على الحديث في مسلم بشرح النووي 226/12.
9) رواه أحمد بسند حسن.
10) ابن العربي، تحفة الأحوذي، 11/9.
11) إمام الحرمين الجويني، غياث الأمم. ص39.
12) ابن كثير، تفسير ابن كثير، 352/1ـ353.
13) رواه من أصحاب السنن أبو داوود، والترمذي والنسائي وأخرجه الإمام أحمد في مسنده.
14) ابن تيمية، منهاج السنة، 270/3.
15) المرجع السابق، 272/3.
16) ابن تيمية، الرسائل الكبرى، 191/1.
القادسية- المساهمات : 329
تاريخ التسجيل : 07/04/2009
مواضيع مماثلة
» النظام السعودي في ميزان الاسلام -5- الواجبات تجاه الرعية
» النظام السعودي في ميزان الاسلام -9- الخاتمة
» النظام السعودي في ميزان الاسلام -1- مقدمة
» النظام السعودي في ميزان الاسلام -8- شبهات وردود
» النظام السعودي في ميزان الاسلام -3- الولاء والبراء
» النظام السعودي في ميزان الاسلام -9- الخاتمة
» النظام السعودي في ميزان الاسلام -1- مقدمة
» النظام السعودي في ميزان الاسلام -8- شبهات وردود
» النظام السعودي في ميزان الاسلام -3- الولاء والبراء
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الإثنين سبتمبر 02, 2013 10:48 am من طرف الحقيقية
» نساعدك فى تخطى ازمات حياتك
الجمعة أكتوبر 12, 2012 12:48 pm من طرف علاج نفسى
» وهل يعلم العراقيون سبب التدفق اليهودي الغريب الى كركوك وشراء العقارات فيها بخمس أضعافها!؟
الخميس مايو 31, 2012 1:39 pm من طرف القادسية
» نداء عاجل الى الشعب المصري الثائر: الاحزاب والجيش وقناة الجزيرة تخدعك وتسرق ثورتك خدمة لاسرائيل وامريكا
الإثنين يونيو 13, 2011 3:58 pm من طرف القادسية
» كاميليا وملحمة التوحيد...د. أكرم حجازي
الخميس مايو 12, 2011 12:17 am من طرف القادسية
» بين رسالة هارون الرشيد لملك الروم ورسالة القذافى لأوباما
السبت مايو 07, 2011 6:53 pm من طرف ايلاف
» أذن أيمن مترى وروح الشهيدة سلوى وأطفالها
الأحد أبريل 24, 2011 5:55 pm من طرف ايلاف
» تقسيم ليبيا
الإثنين أبريل 11, 2011 7:01 am من طرف ايلاف
» رسالة إلى نيرون قطر ...ارسلها محمد تامالت
الجمعة مارس 25, 2011 7:44 pm من طرف القادسية