بحـث
المواضيع الأخيرة
نوفمبر 2024
الأحد | الإثنين | الثلاثاء | الأربعاء | الخميس | الجمعة | السبت |
---|---|---|---|---|---|---|
1 | 2 | |||||
3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 |
10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 |
17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 |
24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 |
قراءة في ذهنية قاعدة « الجزيرة » وحروبها...د. أكرم حجازي
صفحة 1 من اصل 1
قراءة في ذهنية قاعدة « الجزيرة » وحروبها...د. أكرم حجازي
قراءة في ذهنية قاعدة « الجزيرة » وحروبها
د. أكرم حجازي
14/12/2010
د. أكرم حجازي
14/12/2010
لا شك أن الغرب قلق من تحول جنوب الجزيرة العربية ومنطقة القرن الأفريقي إلى ملاذ جديد وخطر للقاعدة. لكن التصريحات والمواقف المتداولة والصادرة بين الحين والحين تتباين إلى حد التنافر في كل اتجاه. وما يمكن استخلاصه لا يخرج عن كونه نوع من الهستيريا السياسية والدبلوماسية جراء الكم الهائل من التصريحات التي تلعن بعضها بعضا.
مع ذلك، وبعد عملية تهذيب وتنقية، يمكن ملاحظة الموقف لدى شريحة رسمية، في مقدمتها الرئيس اليمني وبعض القيادات والشخصيات النافذة في اليمن، ترى أن القاعدة ليست بذلك الخطر الموهوم، وكل ما في الأمر أن الغرب يحضر لاحتلال اليمن مستغلا تنامي فعاليات القاعدة على المستوى الدولي. لكن، حتى تستقيم الرؤية الرسمية، وتستوي على سوقها، لا بد من ملاحظة رأي شريحة مهنية، تعارض نظيرتها الرسمية، وتقول بأن السلطة في اليمن هي المستفيد الأول من تضخيم خطر القاعدة كونه يمكنها من الاحتفاظ بالسلطة وطلب المساعدة الأمريكية لكن دون تدخل مباشر! وهذا ما تصرح به عادة.
هذا منطق القوم. لكن السؤال المركزي في فهم المعادلة سيظل مرتبطا، إلى حد كبير، بمنطق القاعدة، صاحبة الشأن، وبنشأتها وطرق تفكيرها وما تفرزه من أفعال ونتائج تضع الجميع في دائرة القلق والترقب لما هو آت، سواء على المستوى المحلي أو الإقليمي أو الدولي. باختصار: هل القاعدة خطرة حقا؟ أم أن الخطر مزعوم؟
قاعدة الجزيرة « زرقاوية » العقل والفعل (1)
بلا أدنى شك فإن أغلب جماعات التيار الجهادي قد استوردت تجربة القاعدة في العراق ابتداء من جماعة التوحيد والجهاد وانتهاء بدولة العراق الإسلامية. وهذه العملية تمت عبر أكثر من وسيلة من بينها انتقال عناصر وقيادات إلى الساحات، وإفراغ ما في جعبتهم من خبرات، أو عبر عودة مقاتلين وقيادات شاركوا في الحرب وتمرسوا في ساحاتها، أو عبر إرسال عناصر منتقاة للتدريب واكتساب الخبرة ... . ولا شك أيضا أن هذا حصل في أفغانستان والصومال باعتراف قادة الجماعات فيها، وحتى باعتراف قيادات دولة العراق الإسلامية. لكنه حصل في اليمن بطريقة مختلفة. فالساحة اليمنية الناشئة على أنقاض ساحة السعودية استوردت التجربة، واستوردت معها عقلية قائدها المؤسس، واستوردت مشروعه. وإذا كان الموت غيب «الزرقاوي» فإن ما يجري انطلاقا من جنوب الجزيرة ليس سوى استكمال لما بدأه في العراق. فهل ثمة ما يدل على ذلك؟ لنرى!
عقلية أبو مصعب الزرقاوي، القائد الأول للقاعدة في بلاد الرافدين عقلية عقدية، صارمة، عنيدة، شرسة وطموحة لا تعرف المستحيل، ولا تعيقها المصاعب والحواجز إذا ما عزمت على القيام بفعل ما .. بل هي عقلية لا تأبه، كثيرا، لأي اعتبار سياسي أو إعلامي أو ردود فعل محلية أو دولية، ولا تعنيها المجاملات مع القوى الأخرى من قريب أو من بعيد .. عقلية باشرت بإفراغ كل ما لديها من مواقف وآراء وأفعال دون أن أن يرتد إليها طرف أو تجرؤ قوة محلية على اعتراضها!
الأكيد أن مشاريع القاعدة وفعالياتها تتسم بالجِدَّة والقدرة على إحداث المفاجأة رغم أن تهديداتها مكشوفة إلى حد المبالغة، لكن ميزة «الزرقاوي» عن غيره من قيادات القاعدة أنه كان صاحب مشروع خاص انطلاقا من العراق وليس في العراق فقط. وإذا كانت القاعدة لا تؤمن بـ «سايكس – بيكو» عقديا، وتسعى لتحطيمها واقعيا، فـ «الزرقاوي» لم يفكر بالانتظار ولا بالمرحلية حتى ينقض عليها فعليا. تلك هي خصوصية مشروع «الزرقاوي» الذي فاجأ الجميع بخروجه المبكر من الحدود باتجاه الدول المجاورة للعراق كلبنان والأردن. لكن أن يصل مشروع «الزرقاوي» إلى الجزيرة العربية انطلاقا من اليمن فلعل مثل هذا الأمر آخر ما كان يخطر على بال مراقب.
خلال المقابلة التي اختصت بها قاعدة « الجزيرة» الصحفي اليمني عبد الإله الشائع، ونشرت على موقع «الجزيرة نت» (26/1/2009) ألقى ناصر الوحيشي أمير القاعدة بقنبلة خبرية في أذن «الشائع» ذات دلالة قاطعة على أن قاعدة «الجزيرة» تفكر بعقلية «الزرقاوي». لكن الإعلام، كعادته، لم يتوقف عندها طويلا. أما جملة «الوحيشي» فتقول: «أن منشأة صافر النفطية والضبة التي استهدفتها القاعدة في سبتمبر/ أيلول 2006، (كانت) بأوامر وتوجيهات من أمير القاعدة في بلاد الرافدين أبو مصعب الزرقاوي».
أما الدلالة الأبلغ فقد جاءت قبل مقتله مع أبي عمر البغدادي؛ حين وجهت مؤسسة الفرقان (24/10/2008) سؤالا لأبي حمزة المهاجر:
• «هل لكم أعمال عسكرية خارج العراق كالدول الغربية مثلاً؟ وهل عندكم النية لاستهداف المصالح الغربية؟»؛
• فأجاب: « ... كل الدول التي اشتركت في عدوانها على العراق وإجرامها بحق أهلنا هم هدف مشروع لنا ... ثم إننا بالفعل نفذنا أعمالاً خارج العراق كثيرة ونخص منها بالذكر العملية الأخيرة في بريطانيا والتي نفذ جزء يسير منها على المطار ... »؛
لكن الأهم في إجابة «المهاجر» وليس «الوحيشي» عبارة لم نتوقف عندها! ولو فعلنا حينها لما استطعنا فك طلاسمها ولو من باب التنبؤ، أما لماذا؟ فلأنها ببساطة سبقت الأحداث. أما العبارة فهي: «نبشر قادة بريطانيا وأمريكا وأستراليا بما هو قادم, فقد منّ الله علينا بما لا طاقة لهم بعون الله برده أو القدرة على كشفه»!!!
الثابت أن القراءات كثيرة والمعطيات وفيرة والاستنتاجات غدت أكثر. لكن الأهم في كل هذا ملاحظة أن قاعدة «الجزيرة» تتحرك بموجب مشروع «الزرقاوي» محليا وإقليميا ودوليا، وبذات المحتوى الخفي الذي عبر عنه «المهاجر»! بمعنى أن ما بدأه «الزرقاوي» انطلاقا من العراق يجري استكماله اليوم انطلاقا من اليمن. والمتتبع لوقائع حروب قاعدة «الجزيرة» لن يخطئ العنوان ابتداء من اليمن مرورا بالسعودية ومطارات أوروبا وأمريكا وصولا إلى طائرات الشحن في دبي والطرود البريدية واستهداف السفراء والسفارات والشخصيات السياسية والأمنية. فما الذي استطاعت الدول المستهدفة منع وقوعه؟ وما الذي تم كشفه قبل تنفيذه؟ لا شيء. الشيء الوحيد المعروف الآن أن قاعدة «الجزيرة» كانت منذ نشأتها ماركة مسجلة باسم «الزرقاوي».
هذه الماركة المسجلة تسببت في أرق وفزع، وجدا لهما حيزا واسعا في رؤوس المسؤولين السعوديين واليمنيين خاصة والخليجيين عامة، صداع يخلف تخبطا، وباعتراف الأطراف المعنية، كلما جرى الحديث عن نشاط القاعدة في الجزيرة العربية والعالم. فنتابع علامات التخبط.
ففي محاضرة ألقاها في جامعة كامبرج البريطانية في أواخر الشهر الماضي، قال الأمير تركي الفيصل المدير السابق للمخابرات السعودية، أن «الإرهاب ينبع من اليمن وينتقل إلى المملكة - 20/11/2010 CNN».
وفي حوار المنامة السنوي الذي نظمته قناة العربية بحضور وزيري خارجة البحرين واليمن ووزير الدفاع البريطاني والأمير تركي الفيصل تحت عنوان: «أمن الخليج ومؤثراته – 10/11» كرر الفيصل الكلام ذاته، الأمر الذي دفع الوزير اليمني أبو بكر القربي إلى رفض صريح للتهمة: «اليمن ليس منطلق للقاعدة» مشيرا إلى أن المشكلة الرئيسية في مواجهة القاعدة سببها: «أننا دائما نبحث عمن نعلق عليه قميص عثمان». لكنه بدلا من أن يقدم أطروحة معقولة وقع في نفس المطب السعودي الذي يتهرب من التهمة أصلا موحيا بأن القاعدة في اليمن تنظيم وافد. فهو يرى أن: «اليمن فيها تواجد الآن للقاعدة .. هؤلاء ليسوا يمنيين .. جاؤوا إلى اليمن .. وإذا نظرنا من أين جاؤوا؟ جاؤوا من العراق .. جاؤوا من أفغانستان .. جاؤوا من الصومال .. من أوروبا .. كيف جاؤوا إلى اليمن؟ كيف مروا بكل هذه الدول دون أن يتنبأ أحد أن هؤلاء قاعدة؟ وتجمعوا في اليمن؟ علامة سؤال ( ؟ ) يجب أن يجاب عليها حقيقة الأمر .. ثم ألا تتحمل كل هذه الدول التي جاؤوا منها ومروا عبر دول أخرى مسؤولية في هذا المقام؟»!
من العجيب أن تصدر مثل هذه التصريحات عن وزير يقرّ، في الندوة ذاتها، بأن القاعدة في بلاده موجودة منذ عام 1995 وليست وليدة 11 سبتمبر، وأن وجودها قائم بفعل استراتيجية الحراك الذي تتبعه القاعدة من منطقة إلى أخرى بحسب ظروف المواجهة والضغط العسكري الذي تتعرض له. وتأسيسا على كلام الوزير اليمني نفسه فالحراك القاعدي ما بين منطقة وأخرى هو حراك يتعلق بالثقل وتفعيل الساحة وليس بإيجادها من العدم. بمعنى أن الحراك لا يمكن أن يحدث بالتوافد إلا إذا كانت الساحة نفسها مهيأة مسبقا وقادرة على استعياب الحراك، فبأي منطق إذن تكون القاعدة في اليمن وليدة الوافدين إليها من الخارج؟! وكيف يمكن للوافدين أن يشكلوا قوامها وحاضرها ومستقبلها؟ إذ لو كان الأمر كذلك لاندثرت القاعدة في العراق بعد مقتل آلاف الوافدين.
حلقة المنامة كانت تراشقا دبلوماسيا على الهواء أكثر منها حوارا. إذ أن تبادل الاتهامات واللعب على ورقة التنظيم الوافد ليس سوى هروب من الحقيقة وعجز عن الاعتراف بها. وإذا ما تتبعنا المزيد من التصريحات أو التحقيق في التصريح الواحد سنكتشف ما هو أكثر من ذلك بكثير. ففي المحاضرة إياها التي قال فيها الفيصل أن: «الإرهاب ينبع من اليمن وينتقل إلى المملكة»، قال فيها أيضا ما ينفي تصريحات الوزير اليمني جملة خاصة فيما يتعلق بامتدادات القاعدة عبر التشكيلات القبلية للمجتمع اليمني، وهذا أمر لا يقوَ على فعله الوافدون. فلنتابع التصريحات:
«إن عناصر تنظيم القاعدة قاموا بإجراء اتفاقيات وعقد صفقات مع عدد من قادة القبائل اليمنية، ما ضمن لهم الحصول على مأوى آمن على غرار أماكن انتشار تنظيم القاعدة في المناطق القبلية الباكستانية .. ( و ) إذا تطورت الأوضاع بشكل أكثر سلبية، فهذا سيزيد المخاطر الأمنية بشكل واضح».
ماذا بقي من تصريحات الوزير القربي عن الوافدين؟ لا شيء. وماذا بقي من تصريحات الحضور في ندوة المنامة وهم يدركون أن القاعدة تنظيم عالمي ومسؤولية دولية وليس قطرية، وبلسان الفيصل بالذات حين يصف خطر القاعدة بـ: «السرطان الذي يتمدد في المنطقة والعالم، والذي باستطاعته أن يصل بإمكانيات ضئيلة جدا وأعداد قليلة إلى أهداف لها تأثير عالمي»؟ لا شيء.
ثمة حكاية معبرة يعلقها البعض على ذمة جحا التي صارت تتسع لمن هب ودب تقول بأن عارا حل بمنزل جحا وأهل بيته. فنبهه الناس في القرية، ودار بينه وبينهم الحوار التالي:
• الناس: يا جحا انتبه! في بلدك عار فتداركه
• جحا: الحمد لله أنه ليس في قريتي
• الناس: بل في قريتك
• جحا: المهم ليس في حينا
• الناس: هو في حيك
• جحا: وليكن. لكنه ليس في شارعي
• الناس: لعله في شارعك
• جحا: لا تقولوا لي أنه في بيتي
• الناس: بل في بيتك
• جحا: هل هو بأهلي
• الناس: نعم
• جحا: اللهم رأسي بخير
حال الدول العربية من أفعال القاعدة كحال جحا في أهل بيته. هذا ما لا ينكره الأمير تركي الفيصل ولا وزيري خارجية اليمن والبحرين. فما الذي فعلته القاعدة حتى تصيب المنطقة بكل هذا الصداع وتجعل كل دولة تتحسس رأسها؟ فهذا يشكو من غياب التنسيق، وذاك يلقي باللائمة على غيره، وثالث يتهرب من المسؤولية، ورابع يكتفي بما اكتفى به جحا. فهل من معنى لهذا التخبط والتهرب وتبادل الاتهامات سوى العجز!؟
يتبع ...
حروب القاعدة
http://www.almoraqeb.net/main/articles-action-show-id-255.htm
عدل سابقا من قبل القادسية في الخميس ديسمبر 16, 2010 3:15 am عدل 9 مرات
القادسية- المساهمات : 329
تاريخ التسجيل : 07/04/2009
حروب القاعدة (2 - 2)
تتجلى فعاليات قاعدة الجزيرة في صور الحرب العسكرية والأمنية الطاحنة التي تخوضها ضد النظام السياسي في اليمن والمصالح الأجنبية. فعلى الأرض؛ كانت مديرية لودر في أبين، من بين عدة مناطق ساخنة، مسرحا لأعنف المعارك المفتوحة مع الجيش اليمني لعدة أيام. لكن مقرات الأمن وأجهزة الاستخبارات والسلطة المحلية كان لها نصيب الأسد من الهجمات. فقد سبق للقاعدة أن وضعت قائمة باستهداف 40 شخصية استطاعت اغتيال 37 منها على امتداد السنوات الثلاث الماضية. وفي شهر أيلول / سبتمبر الماضي وزعت قائمة أخرى في زنجبار بأسماء 55 شخصية مطلوبة على قائمة الاستهداف في محافظة مأرب، وشملت 30 ضابطا في الأمن السياسي و 15 من البحث الجنائي و 9 ضباط من الاستخبارات العسكرية.
مثل هذه النشاطات العسكرية والأمنية تؤكد أن القاعدة تجاوزت مرحلة الانقراض التي دفعت ثمنها باهظا في شمال الجزيرة بقيادة عبد العزيز المقرن (19/6/2004) وفي جنوبها بقيادة أبي الحسن المحضار (17/10/1997) ومن ثم أبي علي الحارثي (3/11/2002). لكن انطلاقتها الهجومية بهذه القسوة لا يمكن أن تسرّ من تابع هجماتها السابقة على شواطئ اليمن ضد ناقلات النفظ والبوارج الحربية الأمريكية أو في مدن السعودية ضد المصالح الأمريكية.
ولا ريب أن ضراوة المواجهات تصيب المراقب بالذهول من اتساع خطط القاعدة في الجزيرة، بل من شراسة ما تخوضه من حروب على جبهات متعددة، محليا وإقليميا ودوليا، وتعلن في الوقت نفسه أنها وضعت النواة الأولى لـ «جيش عدن أبين». في السطور التالية قراءة لبعض النماذج من حروب القاعدة بالإضافة إلى حرب الشيخ أنور العولقي.
حرب اقتصادية
في كتابه الشهير دعوى المقاومة الإسلامية العالمية رفض أبو مصعب السوري فكرة أن يكون للضعفاء استراتيجيات عسكرية تتسم بالاستقرار والثبات مشيرا إلى أن الضعفاء لا يملكون استراتيجيات ولا هم بقادرين على الاحتفاظ بها أو الدفاع عنها. لكنهم قادرون على اتباع أساليب حربية تتغير بين الحين والحين بحسب ظروف المواجهة والقدرة على التنفيذ. في المقابل فإن هزيمة الولايات المتحدة أو الغرب عسكريا في ساحة ما لا تعن بأي حال من الأحوال هزيمة عسكرية ساحقة. ذلك أن أوراق الخصم كثيرة ومتنوعة. فإذا فشل بأداة معينة فليس هناك ما يمنعه من استعمال أداة أخرى. هكذا يبدو كلام السوري منطقي. فما العمل إذن؟
هزيمة أمريكا من وجهة نظر القاعدة اقتصادية وليست عسكرية. هذه الفكرة ليست وليدة الهوى! بل هي جزء من عقلية الشيخ أسامة بن لادن الذي كان أول من عبر عنها ودعا إليها وعمل بمقتضاها. فهو أولا وقبل كل شيء خريج الإدارة العامة والاقتصاد، ورجل أعمال. ولا بد أن هذا التأهيل العلمي والعملي، ترك أثرا في عقلية الشيخ الذي يحسبه بعض الدارسين الأمريكيين مهندسا. وبالتالي فإن كل عمله واقع حكما في بيئة اقتصادية كالشركات والمشاريع والصفقات والإدارة والحسابات وغيرها. والثابت علميا أن هذه الشريحة من الناس تمتاز بالعقلانية والتعقل قبل الإقدام على أية خطوات غير محسوبة طالما أن الأمر يتعلق بالربح والخسارة. ولا شك أن ضربه لأبراج التجارة العالمية، وحثه على وجوب الاستنزاف العسكري لمخزون السلاح الأمريكي، فضلا عن حديثه المتكرر عن نهب الولايات المتحدة لثروات المسلمين خاصة من النفط طوال العقود الماضية أمثلة بارزة على أهمية الاقتصاد كعامل مركزي، إن لم يكن حاسما، في الصراع الطاحن مع الولايات المتحدة والغرب.
من جهته جَهِد أبو مصعب النجدي، أحد مفكري القاعدة، مبكرا في بيان أن هدف القاعدة تحطيم الغرب اقتصاديا وليس عسكريا، فكتب يقول: «دخلت الأمة الإسلامية عبر معركة تنظيم القاعدة مع أمريكا مرحلة جديدة تختلف عن سابق المراحل التي خاضها المسلمون مع أعدائهم, وتقوم هذه المرحلة في أهم ركائزها على الحرب الاقتصادية نظرا لاختلاف الخصم في هذه الحرب الشرسة؛ فالمعتاد أن الحروب تقوم على القوة العسكرية والانتصار بيد الأقوى عسكريا والمتغلب في ميدان المعركة. أما حربنا مع أمريكا فتختلف اختلافا جذريا حيث تعتمد في المقام الأول على هزيمتها اقتصاديا؛ فكل ما يؤثر في اقتصادهم سلبا يعتبر بالنسبة لنا تقدمُ خطوة في طريق الانتصار, وليس للهزائم العسكرية ذلك التأثير في مقاييس الانتصار الكلي إلا بما تأتي به هذه الهزائم من تأثير على الاقتصاد بشكل غير مباشر يتمثل في اهتزاز ثقة الرؤوس الاقتصادية بقدرة هذه الدولة على حماية تجاراتهم وتداولاتهم المختلفة والمتنوعة, إلى جانب قيمة المنشئات أو الآليات المتأثرة في ميدان المعركة».
الأمثلة كثيرة على حقيقة أن حروب القاعدة الساخنة مع الولايات المتحدة أثخنت فيها اقتصاديا، ومن المفيد، في هذا السياق مراجعة الردود الموثقة للباحث المصري عامر عبد المنعم عن الانهيار الاقتصادي الأمريكي الوشيك. لكن المؤشرات باتت أكثر من أن تحصى خاصة مع تفجر الأزمة الاقتصادية العالمية. إذ يمكن بسهولة ملاحظة أن هجمات القاعدة الدولية على الأهداف الأمريكية والأوروبية كانت تستهدف بصريح العبارة « الاستنزاف الاقتصادي وليس القتل» عبر ما يسمى بـ «عبوات الاستنزاف» بحسب ما جاء في بيان قاعدة «الجزيرة - 5/11/2010» فيما يتعلق بالطرود الملغومة. فالكلفة المالية، في ظروف الأزمة الاقتصادية العالمية، باهظة المقدار سواء على مستوى المواجهة الساخنة أو على مستوى الأمن والإعلام والتجارة والعلاقات الدولية وإجمالي النفقات العامة.
أما مؤشرات «الوجع» الأمريكي فيمكن تتبعها فيما بدا استراتيجيات جديدة في التعامل مع هجمات القاعدة الدولية تقوم على التكتم أو الصمت أو التعتيم أو التمييع أو التجاهل لامتصاص التداعيات الفورية للحدث خشية وقوع حالة من الفزع الدولي خاصة في القطاعات الحيوية كالطاقة والأسواق المالية وحركة التجارة والمواصلات والاتصالات وأسعار السلع والخدمات.
هذه السياسة لوحظت في أعقاب الهجوم على ناقلة النفظ اليابانية في الخليج الذي نفذته كتائب عبد الله عزام في 29/6/2010، وقيل بدايةً أن الناقلة تعرضت لحريق قبل أن تعلن اليابان رسميا، بعد أيام، أنها تحقق فيما إذا كانت الناقلة «ربما» تكون قد تعرضت لهجوم إرهابي، ثم في طائرة الشحن الأمريكية التابعة لشركة UPS والتي سقطت بعد إقلاعها من مطار دبي الدولي في 3/9/2010، وقيل أيضا أن حريقا اندلع في كابينة القيادة!! وأخيرا في مسألة الطردين اللذين أرسلتهما قاعدة «الجزيرة» جوا إلى معابد يهودية في الولايات المتحدة، ما لبثا أن تحولا إلى طرود اجتاحت العالم والسفارات وأحدثت بلبلة في حركة النقل الجوي.
الحروب الأمنية
خلافا لما يشاع عن اختراقات واسعة في صفوف القاعدة فالثابت أنها وكافة تيارات الجهاد العالمي الأقل اختراقا في تاريخ الجماعات المقاتلة. بل أنها وباعتراف الخبراء والمتابعين وحتى السياسيين تمتلك أفضل أجهزة الاستخبارات، وتستعمل أدهى الوسائل المبتكرة. وهذا ثبت في كل ساحة قتالية تواجدت بها القاعدة أو مثيلاتها ممن تعتنق النهج نفسه. ولا شك أن أعتى قوة استخبارية للقاعدة كائنة الآن في العراق. لكن قاعدة «الجزيرة» يصعب مقارنتها بأية شقيقة لها. إذ أن أهدافها غدت بلا حدود سواء داخل اليمن والسعودية أو عبر العالم، ووسائلها مبتكرة بالكامل، وجبهاتها مفتوحة للمفاجآت، وهذا وضع لا يسر أحدا من خصومها.
حين نفذت عمليتها الشهيرة ضد الأمير محمد بن نايف مساعد وزير الداخلية السعودي في 27/8/2009 لم يكن من السهولة بمكان استيعاب الحدث. ولولا أنها أصدرت حينها بيانا تبنت فيه المسؤولية، ثم بعد أكثر من شهر تسجيلا صوتيا مع منفذ العملية عبد الله حسن العسيري وهو في ضيافة الأمير! لبقيت الشكوك تغوص عميقا في عقل أي مراقب أو محلل نظرا لفداحة الحدث غير المسبوق! ومع ذلك فقد ظلت الأسئلة مطروحة دون أن تجد لها جوابا من نوع: كيف استطاعت القاعدة الوصول إلى أهم شخصية أمنية في السعودية؟ وكيف يمكن لمثل هذه الشخصية أن تقع في شرك قاتل؟ وفي عقر الدار؟ كيف؟ ما هو الفخ؟ وما هو الطعم؟ ومن هو المنفذ؟ وكيف تمت العملية؟ وما هي آثارها؟ وغير ذلك من الأسئلة.
ظلت الأسئلة بلا إجابات لأكثر من عام، إلى أن بثت مؤسسة الملاحم التابعة لقاعدة «الجزيرة» شريطا مصورا في 4/10/ 2010 ضمن سلسلة «فزت ورب الكعبة - 2». وبكل المعايير؛ كان الشريط فضيحة أمنية من العيار الثقيل، خاصة وهو يروي مراحل الاستطلاع والتنفيذ للعملية من ألفها إلى يائها، ويتحدث عن محاولات اغتيال جرى التخطيط لها في قلب مطار صنعاء. هكذا، وبالمقارنة تكون المخابرات الأمريكية في خوست معذورة أمام الطبيب الأردني همام البلوي الذي ظنوه عميلا لهم حتى قبل لحظات من الفتك بهم، لكن مع الأمير محمد بن نايف فقد استطلعت القاعدة الطريق إليه من اليمن إلى القصر، وحاورته وجالسته ولعلها تمتعت بنكهة الشاي والقهوة الأميرية ثم عادت إليه بنكهة البارود لولا أن حالت أقدار الله بينه وبين الموت.
حرب أمنية لا تخلو من مخاطر وغموض طالما أنها تقع في مستويات استخبارية. إلا أن القاعدة أعدت لها رجالها وخبراءها ومختبراتها وأدواتها كما تتحدث مجلة Inspire. والعجيب أنها حرب مكشوفة لم تعد تخفي فيها القاعدة نواياها ولا تهديداتها ولا وسائلها، والأسوأ من هذا وذاك أنها حرب تتسم بالعناد وتنزع إلى التحدي.
ففي مجلة Inspire الصادرة عن القاعدة باللغة الإنجليزية ثمة مقالة مثيرة للغاية عن الطرود الملغومة بعنوان: « عملية الاستنزاف» كتبها أحد المشاركين بإعداد الطرود يقول فيها: «نحن نحدد لأعدائنا خطتنا سلفا، لأننا كما أعلنا سابقا هدفنا ليس تكبيد أقصى الخسائر البشرية الممكنة وإنما لتحقيق أكبر استنزاف ممكن لصناعة الطيران». وفي بيانها عن تفجير طائرة الشحن والطرود الملغمة أعلنت القاعدة عما أسمته بـ «عبوات الاستنزاف»، وكشفت عن فاعليتها وقدرتها على التحكم بها بحيث يمكن: « ... تفجيرها في الجو، أو بعد وصولها إلى هدفها الأخير»، فضلا عن أنها: « مصممة لتتجاوز جميع أجهزة الكشف». وهددت بالقول: « ... إننا ننوي تعميم الفكرة على إخواننا المجاهدين في العالم، وتوسيع دائرة تطبيقها لتشمل الطائرات المدنية في الغرب، إضافة إلى طائرات الشحن». ورغم كل هذا الانكشاف إلا أن القاعدة تصل إلى أهدافها. حقا أمر يدعو للعجب!
حرب على الحوثيين
«الزيدية» في اليمن على النقيض تماما من الحوثية. فالأولى تنتسب إلى الإمام زيد بن علي بن الحسين بن علي رضي الله عنهم، ولا تختلف إلا بتقديمها آل البيت رضوان الله عليهم على ما عداهم من المسلمين. وتبعا لذلك فالزيدية امتداد أصيل لأهل السنة، وليس في عقائدهم ما يشين إلا من جهل أو التبس عليه الأمر من العامة وضل ضلالا بعيدا. أما «الحوثية» فهي طائفة منشقة تعود جذور نشأتها الأولى، وللمفارقة، إلى تلميذ الإمام زيد الشهير بأبي العبد الجارودي مؤسس ما يعرف تاريخيا بالفرقة «الجارودية» التي كان لها السبق في تبني فكرة ولاية الفقيه ومن ثم المذهب الجعفري الاثنى عشري. لذا ليس غريبا أن يتبرأ علماء الزيدية من «الجارودية» وتجلياتها، ومن الحرب التي شنها الحوثيون سنة 2004 على السلطة في مناطق صعدة الجبلية شمالي البلاد. وليس عجيبا أن تتسمى جولات الصراع من بدايتها إلى آخرها بـ «الحرب الحوثية» بعيدا عن أية صلة عقدية أو مذهبية بأهل السنة. ولو كانت تعبيرا عن احتجاجات شعبية ضد مظالم النظام وفساده السياسي والاجتماعي لما اتخذت الحرب هذه التسمية الطائفية الدالة عليها وعلى أهدافها.
ما أن اندلعت الجولة السادسة من الحرب، في السنة الماضية، بمشاركة السعوديين، الذين تكبدوا خسائر فادحة فيها؛ حتى وجدت القاعدة نفسها واقعة رغم أنفها بين اتهامات لها بالتحالف مع الحوثيين وأخرى مع الأنظمة السياسية الحاكمة. وهو ما لم تكن تتمناه أو تسعى إليه فضلا عن أن تُضرَب به، بعكس الحوثيين الذين صبت مثل هذه الاتهامات في سلتهم مباشرة ودون جهد جهيد. فإذا ما تدخلت القاعدة ضد الحوثيين رموها بتهمة الدفاع عن الأنظمة، ولو نأت بنفسها عن الصراع سيكون من السهل إلصاق التهمة التقليدية بها كمتواطئة أو حليفة خفية لإيران وللحوثيين الروافض. وفي كلا الحالتين ستدفع القاعدة ثمن التفريط بأهل السنة، وهي التي تزعم الدفاع عنهم. والواقع أن الكتابات، إلا من أعمل عقله واحترم قلمه، تقاسمت المهمة وجرى تسويق الاتهامين ضدها كلٌّ بحسب قراءته أو ميوله أو أجندته.
فجأة، توقفت الحرب السادسة رغم تهديدات وزير الخارجية الإيرانية منو شهر متكي من مغبة تدخل دول الجوار ضد الحوثيين، وكأن المسألة الحوثية وصعدة والجوف والأراضي السعودية صارت شأنا إيرانيا داخليا! ورغم أن القوات السعودية واليمنية تلقتا صفعات قاسية على يد المقاتلين الحوثيين الذين استطاعوا التوغل في الأراضي السعودية بعمق 40 كم، فضلا عن تهديد عشرات القرى السنية. لكن يبدو أن قاعدة بذهنية «الزرقاوي »؛ ما كان لها أن تبتلع الاتهامات ولا سطوة الحوثيين على أهل السنة. ومع ذلك ما كان لها في ذلك الحين إلا أن تكظم غيظها بانتظار تنقية الساحة الإعلامية والنفسية من المواقف وشوائب الاتهامات، حتى إذا ما حان الموعد نفذت ضربتها وحصدت ثمار محصولها بالكامل دون أن يشاركها به أحد.
هكذا، وفي صباح يوم 23/10/2010 نفذت القاعدة ضربة أمنية غير مسبوقة ضد الحوثيين في محافظة الجوف عبر سيارة مفخخة أسفر انفجارها عن مقتل 20 عنصرا منهم بينهم عدد من كبار القيادات، من بينها حسين هضبان أحد مؤسسي الجماعة بالمحافظة، إضافة إلى نجل قائد الحوثيين عبدالله العزي عبدان. وفي اليوم التالي نفذت هجوما آخر على معقل الحوثيين في منطقة ضحيان بمحافظة صعدة خلال تشييع ضحايا انفجار الأمس.
في البيان الأول (25/10) تبنت القاعدة الهجوم باسم: «عمليات الدفاع عن أهل السنة»، وبررت عملياتها ضد الحوثيين بـ: «فشل حكومتي صنعاء والرياض في التصدي للحوثيين والروافض»، زيادة على أن: «الجيش السعودي واليمني لا يمثلون أهل السنة» والأهم: (1) «تركهم لأهل السنة يواجهون مصيرهم المجهول» و (2) «دفاعا عن عرض نبينا صلى الله عليه وآله وسلم وصحابته الكرام »، و (3) « دفاعا عن إخواننا من أهل السنة بعدما رأيناهم يقتلون، وتنتهك أعراضهم، وتهدم بيوتهم، ويهجرون من منازلهم ومناطقهم، ولا ناصر لهم»، وأعلنت عن: (4) «تشكيل وحدات خاصة للدفاع عن إخواننا من أهل السنة»، ودعت (5) «أبناء أهل السنة للالتحاق بكتائب الدفاع .. لمواجهة الخطر الشيعي القادم»، واعتبرت (6) «الحوثيين الروافض هم هدف مشروع»، كما طلبت من (7) «أهل السنة أن يتجنبوا تجمعاتهم ومواكبهم .. (وكذا دعت) المغرر بهم أن يتركوا الحوثيين الروافض قبل فوات الأوان».
هذا البيان الذي يحدد سياسة القاعدة المستقبلية ونواياها تجاه الحوثيين؛ وهذه النقاط التي تبدو، في ظاهرها، تقليدية ومملة للقارئ الباحث عن نتائج سريعة وساخنة، لا يمكن قراءتها على أنها مجرد إعلان حرب فحسب، بل في كونها ستشكل حصانة وركيزة للقاعدة لجهة تدخلها في أية مواجهة قادمة مع الحوثيين دون أن تضطر إلى تحمل وزر أية اتهامات أو شبهات محتملة، خاصة وأنها تخطط لما أسمته هي بـ : «عمليات الدفاع عن أهل السنة»، والواقعة ضمن ما قالت في بيانها أنه: «سلسلة استئصال النبتة الخبيثة التي زرعها الشيعة الإيرانيون الروافض في صعدة وما جاورها».
إذن سياسة القاعدة في اليمن ضد الحوثيين تمثل منعطفا خطيرا جدا، وبالغة الحرج لاسيما للقوى السياسية المتورطة في الحرب الحوثية سواء المحلية أو الإقليمية. فبعد الهزائم المتكررة للجيوش الرسمية والقلق المزمن الذي خلفته الحرب خاصة مع التدخل الفظ للإيرانيين، فضلا عما زرعته الحوثية من موطئ قدم على جانبي الحدود اليمنية – السعودية يأتي تدخل القاعدة على هذا النحو، ليخلط الأوراق ويعرقل خطط التلاعب الدولي في المنطقة. فالحرب التي تندلع في الوقت الذي تشاء فيه أمريكا وإيران ثم تتوقف بذات المشيئة وجدت لها من يفسد عليها عملها في منطقة مهددة بالابتلاع والتقسيم والتفكيك. تدخل القاعدة لا ريب أنه يفيد السعودية واليمن فيما يتعلق بالضغط على الحوثيين والإيرانيين. لكن مصدر الحرج لهما يكمن في منطق القاعدة الذي لا يتقبل هذا ولا ذاك، ولا يعنيه من المستفيد من القوى السياسية لأنه ببساطة لا يعترف، أصلا، بمبدأ تقاطع المصالح، لا مع الحوثيين ولا مع الحكومات.
المهم أن الحوثيين في هذه الجولة خسروا كثيرا بالتدخل المفاجئ للقاعدة، وعلى هذا النحو الشرس. فالضربة صممت تصميما أمنيا محكما لدرجة أن الحوثيين بدوا في صدمة من هول المفاجأة التي أوقعها الحدث بهم. فهم في هذه الفترة على وفاق مع السلطة اليمنية، حتى أنهم قاموا بتسليم بعض عناصر القاعدة للأمن اليمني في صعدة. وبسبب جهلهم بالجهة المنفذة، لم يجدوا إلا جهاز المخابرات الإسرائيلية «الموساد» ليحملوه مسؤولية الهجوم. كما أنها ضربة صممت بحيث لا تمس سنيا في منطقة يتداخل فيها السني والشيعي، وكشفت، إلى حد ما، عن هوية الحرب مع الحوثيين. والأهم أن الضربة جرى إعدادها وتنفيذها بمحتوى عقدي في الصميم لمّا اختارت القاعدة يوم الاحتفال السنوي بما يسمى عيد « الغدير» عند الشيعة. و«الغدير» هو المكان الذي يبني عليه الروافض فكرة ولاية الفقيه، ويزعمون أن الرسول صلى الله عليه وسلم ولى علي بن أب طالب رضي الله عنه الولاية على المسلمين من بعده فيما اشتهر عندهم بـ «حديث الغدير».
وفي المحصلة، فإن ما حققته القاعدة في هذه الضربة لم تحققه القوى المحلية والإقليمية، ولو أنها توقفت عند هذا الحد لكان أخف بلوى على الحوثيين مما ورد في البيان الثاني الذي صدر بعد يومين (27/10)، وأعلنت فيه القاعدة أنها تلقت معلومات من موقع الحدث، لم ترد في البيان الأول حتى تم التأكد منها، تفيد بأن بدر الدين حسين الحوثي (86 عاما)، والد زعيم الحوثين عبد الملك الحوثي ووريث «الجارودية» ومرجعها، قتل في الهجوم الأول. وفي حين أعلنت مصادر حوثية عن خبر وفاته بعد يومين من انفجار مواكب «الغدير» (25/10)، بفعل مرض الربو؛ قال بيان القاعدة أن جنازة المرجع تم تشييعها في اليوم التالي للهجوم، وهو ما يرجح مقتله فعلا وليس وفاته.
حرب العولقي
ثمة نوعين من الحرب الدعوية الشرعية التي تدور رحاها في الجزيرة العربية انطلاقا من اليمن. الأولى هي تلك التي تضطلع بها قاعدة الجزيرة، وتتوجه نحو السعوديين واليمنيين على السواء أكثر مما تتوجه إلى الأمة. ومن أبرز رموز دعاتها إبراهيم الربيش وعادل العباب ومحمد الراشد. وهؤلاء يساندهم سعيد الشهري (أبو سفيان الأزدي) وقاسم الريمي (أبو هريرة الصنعاني) بالإضافة إلى ناصر الوحيشي أمير التنظيم. أما الثانية، وهي الأخطر على الخصوم، فيقودها الشيخ أنور العولقي، وتتوجه نحو الأمة الإسلامية بكل مكوناتها وشرائحها ومكاناتها السياسية والعلمية.
المتتبع لسيرة العولقي ونشاطه الدعوي لا ريب أنه لاحظ أداءه التاريخي البعيد عن أي ارتباط تنظيمي من أي نوع كان. وحتى بعد أن أعلن عداءه للأمركيين، وحرض على قتلهم، ودافع عن الجهاد والمجاهدين، لم يتخلَّ العولقي عن كونه داعية، ولم يعلن أنه من القاعدة، ولم تعلن القاعدة أنه عضو فيها. كل ما في الأمر أنها استأثرت منه بمقابلة حصرية لم تفز بها أية وسيلة إعلامية في الوقت الذي كان فيه على العولقي أن يتحدث، وأعلنت عن استعدادها لتقديم الحماية له بعد أن صار مطلوبا للأمركيين حيا أو ميتا.
السلطات اليمنية تعلم أن الاتهامات الأمريكية الموجهة ضد العولقي لا تستند إلى أية أدلة دامغة بأنه عضو في القاعدة. ولما أجرت معه مؤسسة الملاحم الإعلامية لقاءها الشهير في 23/5/2010 قدمته بصريح العبارة باسم: «اللقاء المرئي مع الشيخ الداعية أنور العولقي». ولما أدرجت الولايات المتحد اسمه على قائمة المستهدفين بالتصفية، بعد إجازة الكونغرس لقتل مواطنين أمريكيين، أصدرت مؤسسة الملاحم بيانا لأمير القاعدة ناصر الوحيشي بعنوان: «نصرة للشيخ أنور العولقي – 16/5/2010» واصفا إياه بـ: «الداعية البطل الصادع بالحق»، ولم يصفه بابن القاعدة ولا بأحد قياداتها أو شيوخها أو مرشديها.
من المعروف أن الأشرطة المرئية التي تبثها المؤسسات الإعلامية للجماعات الجهادية، كـ «الأندلس» والفرقان» و «الملاحم» و«المأسدة» وغيرها تكون عادة موقعة، بدايةً ونهايةً، باسم الجهة الصادرة عنها، وغالبا ما يتم تذييلها بعبارة «مركز الفجر» للدلالة على سلامة الإصدار والجهة التي أصدرته، باعتباره المؤسسة الإعلامية ذات العلامة المميزة. لكن في آخر شريط مرئي للعولقي نشرته الشبكات الجهادية بعنوان: « لتبيننه للناس ولا تكتمونه - أنور العولقي 8/11/2010»، ظهر فيه العولقي مباشرة دون أن يتضمن أي توقيع لا في البداية ولا في نهاية الشريط! وكل ما تضمنه الشريط في بدايته البسملة، وعنوان الشريط، وصفة صاحبه «الشيخ الداعية» واسمه.
فرادة العولقي وتميزه وقوته كائنة بصفته داعية لا عضوا في القاعدة. هذه هي الكلمة السحرية التي يمكن بها الولوج إلى عقلية العولقي أكثر من ذي قبل. وفي السياق لا بد من ملاحظة أنه ثمة فرق كبير بين من يؤيد القاعدة أو يتعاطف معها ويدعو لها بالنصر وينتشي بأفعالها ضد الأمريكيين وبين من ينتسب إليها عضويا، ويتحمل قانونيا وشرعيا مسؤولية العضوية. وثمة فرق أكبر بين من يحمل هَمّ القاعدة ومن يحمل هَمّ الأمة. وهذا رصيد نحسب أن العولقي أدركه فلم يفرط به حتى اللحظة. وهذا ما يزعج الخصوم والأعداء وليس كون العولقي عضوا في القاعدة أو لا.
ولأنه داعية نجده يوجه خطابه إلى الناس عامة وليس إلى الخاصة، ويستعمل المفردات والمصطلحات الشرعية الجاذبة وليس شقيقتها «المنفرة». ففي شريطه الأخير الآنف الذكر قدم العولقي عرضا قصيرا عن حال الأمة، لكنه، كعادته، بالغ الحجة والبيان. لكن، وعلى قاعدة لكل مقام مقال، لم يستعمل فيه قط مفردات من نوع «كافر» أو « مرتد». ففي كل المحاور التي تعرض لها استعمل لغة الدعوة وابتعد كلية عن لغة التيار الجهادي العالمي التي تتقدم فيها لغة الحكم الشرعي على لغة الدعوة. وكنموذج على البراعة في المزج ما بين السياسي والشرعي، وكغيره من كثير من الناس، لم يترك صفة سياسية قبيحة إلا وألصقها بالحكام والمسؤولين، لكنه بيَّن عدم مشروعيتهم السياسية مستعملا، بدهاء، عبارة « ولاة الأمر»، وفي نفس الوقت طالب علماء الأمة بـ: «تبيين التوصيف الشرعي الصحيح لحكّام العالم الإسلامي».
هذه لغة داعية لم يتجاوز فيها حتى العلماء، رغم أنه دعاهم إلى الجلوس في البيوت إذا كانوا عاجزين عن قول الحقيقة والقيام بواجب الأمانة الملقاة عليهم: «لتبيننه للناس ولا تكتمونه». ولو كان العولقي عضوا في القاعدة لما خشي الإعلان عن ذلك خاصة بعد الإعلان عن استهدافه أمريكيا. ولو كان التحريض على قتل الأمريكيين تهمة لَعنَى ذلك أن أمة الإسلام صديقة للأمريكيين ولكل قوة عدوانية أو غازية. والثابت أن مواقف العولقي الفردية من الأمريكيين لا تختلف عن مواقف الكثير من رموز الأمة أو قياداتها التي تطالب بمقاومة الأمريكيين واليهود وكل من يعتدي على حياضها أو يسلب ثرواتها، بما في ذلك القوى الوطنية والقومية وحتى ما تبقى من القوى اليسارية. ولو وسعنا الدائرة أكثر لكان على الأمريكيين أن يحددوا ما إذا كان هؤلاء والمصلون في المساجد يستحقون القتل خاصة أنهم لا يتوقفون عن تمني هزيمة الأمريكيين وأمريكا والطلب من الله عز وجل لـ «تدميرها» أو «زلزلة الأرض من تحتها».
مرة أخرى! منطق الأمريكيين في استهداف العولقي يكمن في خطابه الموجه للأمة بوصفه داعية مؤثر لا بوصفه عضوا في تنظيم القاعدة. هذه التهمة ليست سوى محاولة لحشره في زاوية « التطرف» و « الخطر» و« التحريض على القتل والكراهية»، حتى يكون لمطاردته أو اعتقاله أو حصاره أو التنكيل به أو قتله مشروعية اجتماعية وسياسية وقانونية وحتى شرعية لدى من يروقهم التخلص من العولقي من بني جلدتنا. لكن هذه التهمة أيضا من الصعب تمريرها إلا إذا نجحت الولايات المتحدة بتجريده من صفة «الداعية» التي يتمتع بها منذ عمله في الدعوة ليس إلا. أما منطق العولقي في الإصرار على صفته هذه فهو ذات المنطق الذي يتمتع به المئات من المشايخ والدعاة الذين عليهم أن يدفعوا ثمنا باهظا إذا ما أفضوا بسرائرهم أو ما اعتقدوا أنه الحق. وأهمية منطق العولقي يكمن في قدرة الناس على تحمل الموقف الشرعي من داعية دون خشية من العواقب أكثر من قدرتهم على تحمله من مشايخ الجهاد الموصومين بـ « الإرهاب». لكن هذا المنطق خطر على مصالح الدول، وغير مقبول محليا ولا دوليا. فكيف يكون الأمر إذن مقبولا من رجل شهدت له الأعداء بالقدرة الفائقة على الإقناع لدرجة أن أحدهم وصفه بـ « مغناطيس المتطرفين»! هذه هي حرب العولقي. الدعوة خارج أسراب « ملا برادلي»!
أخيرا
أبرز الانطباعات تجاه ما يميز حروب قاعدة « الجزيرة » أن كل حرب منها تبدو، في الميدان، وكأنها منفصلة عن الأخرى. فالحرب ضد الجيش مختلفة عن الحرب الأمنية ضد رموز وقوى الأمن والسلطات المحلية في السعودية واليمن. والحرب ضد الغرب كأنها من قاعدة غير قاعدة « الجزيرة ». والحرب ضد الحوثيين صار لها ميدانها الخاص ورجالها ووسائلها وأدواتها المختلفة. أما حرب العولقي فهي جبهة فريدة سواء على مستوى الدعوة أو على مستوى العلاقات الاجتماعية بين القبائل.
إلى أين سيصل أمر القاعدة في الجزيرة؟ لا ندري. كل ما نعرفه أننا إزاء تجربة مثيرة حرّم أصحابها وخصومهم على الساحة العلمية الاقتراب منها والغوص في أعماقها. لذا ليس لنا من الأمر إلا نكتفي بمراقبة ما يجري. وحتى هذه ليست بتلك الضمانة لمن هم في قلب الحدث، وإلا فإن مصيره لن يكون بأفضل من مصير الصحفي اليمني عبد الإله الشائع.
http://www.almoraqeb.net/main/articles-action-show-id-256.htm
مثل هذه النشاطات العسكرية والأمنية تؤكد أن القاعدة تجاوزت مرحلة الانقراض التي دفعت ثمنها باهظا في شمال الجزيرة بقيادة عبد العزيز المقرن (19/6/2004) وفي جنوبها بقيادة أبي الحسن المحضار (17/10/1997) ومن ثم أبي علي الحارثي (3/11/2002). لكن انطلاقتها الهجومية بهذه القسوة لا يمكن أن تسرّ من تابع هجماتها السابقة على شواطئ اليمن ضد ناقلات النفظ والبوارج الحربية الأمريكية أو في مدن السعودية ضد المصالح الأمريكية.
ولا ريب أن ضراوة المواجهات تصيب المراقب بالذهول من اتساع خطط القاعدة في الجزيرة، بل من شراسة ما تخوضه من حروب على جبهات متعددة، محليا وإقليميا ودوليا، وتعلن في الوقت نفسه أنها وضعت النواة الأولى لـ «جيش عدن أبين». في السطور التالية قراءة لبعض النماذج من حروب القاعدة بالإضافة إلى حرب الشيخ أنور العولقي.
حرب اقتصادية
في كتابه الشهير دعوى المقاومة الإسلامية العالمية رفض أبو مصعب السوري فكرة أن يكون للضعفاء استراتيجيات عسكرية تتسم بالاستقرار والثبات مشيرا إلى أن الضعفاء لا يملكون استراتيجيات ولا هم بقادرين على الاحتفاظ بها أو الدفاع عنها. لكنهم قادرون على اتباع أساليب حربية تتغير بين الحين والحين بحسب ظروف المواجهة والقدرة على التنفيذ. في المقابل فإن هزيمة الولايات المتحدة أو الغرب عسكريا في ساحة ما لا تعن بأي حال من الأحوال هزيمة عسكرية ساحقة. ذلك أن أوراق الخصم كثيرة ومتنوعة. فإذا فشل بأداة معينة فليس هناك ما يمنعه من استعمال أداة أخرى. هكذا يبدو كلام السوري منطقي. فما العمل إذن؟
هزيمة أمريكا من وجهة نظر القاعدة اقتصادية وليست عسكرية. هذه الفكرة ليست وليدة الهوى! بل هي جزء من عقلية الشيخ أسامة بن لادن الذي كان أول من عبر عنها ودعا إليها وعمل بمقتضاها. فهو أولا وقبل كل شيء خريج الإدارة العامة والاقتصاد، ورجل أعمال. ولا بد أن هذا التأهيل العلمي والعملي، ترك أثرا في عقلية الشيخ الذي يحسبه بعض الدارسين الأمريكيين مهندسا. وبالتالي فإن كل عمله واقع حكما في بيئة اقتصادية كالشركات والمشاريع والصفقات والإدارة والحسابات وغيرها. والثابت علميا أن هذه الشريحة من الناس تمتاز بالعقلانية والتعقل قبل الإقدام على أية خطوات غير محسوبة طالما أن الأمر يتعلق بالربح والخسارة. ولا شك أن ضربه لأبراج التجارة العالمية، وحثه على وجوب الاستنزاف العسكري لمخزون السلاح الأمريكي، فضلا عن حديثه المتكرر عن نهب الولايات المتحدة لثروات المسلمين خاصة من النفط طوال العقود الماضية أمثلة بارزة على أهمية الاقتصاد كعامل مركزي، إن لم يكن حاسما، في الصراع الطاحن مع الولايات المتحدة والغرب.
من جهته جَهِد أبو مصعب النجدي، أحد مفكري القاعدة، مبكرا في بيان أن هدف القاعدة تحطيم الغرب اقتصاديا وليس عسكريا، فكتب يقول: «دخلت الأمة الإسلامية عبر معركة تنظيم القاعدة مع أمريكا مرحلة جديدة تختلف عن سابق المراحل التي خاضها المسلمون مع أعدائهم, وتقوم هذه المرحلة في أهم ركائزها على الحرب الاقتصادية نظرا لاختلاف الخصم في هذه الحرب الشرسة؛ فالمعتاد أن الحروب تقوم على القوة العسكرية والانتصار بيد الأقوى عسكريا والمتغلب في ميدان المعركة. أما حربنا مع أمريكا فتختلف اختلافا جذريا حيث تعتمد في المقام الأول على هزيمتها اقتصاديا؛ فكل ما يؤثر في اقتصادهم سلبا يعتبر بالنسبة لنا تقدمُ خطوة في طريق الانتصار, وليس للهزائم العسكرية ذلك التأثير في مقاييس الانتصار الكلي إلا بما تأتي به هذه الهزائم من تأثير على الاقتصاد بشكل غير مباشر يتمثل في اهتزاز ثقة الرؤوس الاقتصادية بقدرة هذه الدولة على حماية تجاراتهم وتداولاتهم المختلفة والمتنوعة, إلى جانب قيمة المنشئات أو الآليات المتأثرة في ميدان المعركة».
الأمثلة كثيرة على حقيقة أن حروب القاعدة الساخنة مع الولايات المتحدة أثخنت فيها اقتصاديا، ومن المفيد، في هذا السياق مراجعة الردود الموثقة للباحث المصري عامر عبد المنعم عن الانهيار الاقتصادي الأمريكي الوشيك. لكن المؤشرات باتت أكثر من أن تحصى خاصة مع تفجر الأزمة الاقتصادية العالمية. إذ يمكن بسهولة ملاحظة أن هجمات القاعدة الدولية على الأهداف الأمريكية والأوروبية كانت تستهدف بصريح العبارة « الاستنزاف الاقتصادي وليس القتل» عبر ما يسمى بـ «عبوات الاستنزاف» بحسب ما جاء في بيان قاعدة «الجزيرة - 5/11/2010» فيما يتعلق بالطرود الملغومة. فالكلفة المالية، في ظروف الأزمة الاقتصادية العالمية، باهظة المقدار سواء على مستوى المواجهة الساخنة أو على مستوى الأمن والإعلام والتجارة والعلاقات الدولية وإجمالي النفقات العامة.
أما مؤشرات «الوجع» الأمريكي فيمكن تتبعها فيما بدا استراتيجيات جديدة في التعامل مع هجمات القاعدة الدولية تقوم على التكتم أو الصمت أو التعتيم أو التمييع أو التجاهل لامتصاص التداعيات الفورية للحدث خشية وقوع حالة من الفزع الدولي خاصة في القطاعات الحيوية كالطاقة والأسواق المالية وحركة التجارة والمواصلات والاتصالات وأسعار السلع والخدمات.
هذه السياسة لوحظت في أعقاب الهجوم على ناقلة النفظ اليابانية في الخليج الذي نفذته كتائب عبد الله عزام في 29/6/2010، وقيل بدايةً أن الناقلة تعرضت لحريق قبل أن تعلن اليابان رسميا، بعد أيام، أنها تحقق فيما إذا كانت الناقلة «ربما» تكون قد تعرضت لهجوم إرهابي، ثم في طائرة الشحن الأمريكية التابعة لشركة UPS والتي سقطت بعد إقلاعها من مطار دبي الدولي في 3/9/2010، وقيل أيضا أن حريقا اندلع في كابينة القيادة!! وأخيرا في مسألة الطردين اللذين أرسلتهما قاعدة «الجزيرة» جوا إلى معابد يهودية في الولايات المتحدة، ما لبثا أن تحولا إلى طرود اجتاحت العالم والسفارات وأحدثت بلبلة في حركة النقل الجوي.
الحروب الأمنية
خلافا لما يشاع عن اختراقات واسعة في صفوف القاعدة فالثابت أنها وكافة تيارات الجهاد العالمي الأقل اختراقا في تاريخ الجماعات المقاتلة. بل أنها وباعتراف الخبراء والمتابعين وحتى السياسيين تمتلك أفضل أجهزة الاستخبارات، وتستعمل أدهى الوسائل المبتكرة. وهذا ثبت في كل ساحة قتالية تواجدت بها القاعدة أو مثيلاتها ممن تعتنق النهج نفسه. ولا شك أن أعتى قوة استخبارية للقاعدة كائنة الآن في العراق. لكن قاعدة «الجزيرة» يصعب مقارنتها بأية شقيقة لها. إذ أن أهدافها غدت بلا حدود سواء داخل اليمن والسعودية أو عبر العالم، ووسائلها مبتكرة بالكامل، وجبهاتها مفتوحة للمفاجآت، وهذا وضع لا يسر أحدا من خصومها.
حين نفذت عمليتها الشهيرة ضد الأمير محمد بن نايف مساعد وزير الداخلية السعودي في 27/8/2009 لم يكن من السهولة بمكان استيعاب الحدث. ولولا أنها أصدرت حينها بيانا تبنت فيه المسؤولية، ثم بعد أكثر من شهر تسجيلا صوتيا مع منفذ العملية عبد الله حسن العسيري وهو في ضيافة الأمير! لبقيت الشكوك تغوص عميقا في عقل أي مراقب أو محلل نظرا لفداحة الحدث غير المسبوق! ومع ذلك فقد ظلت الأسئلة مطروحة دون أن تجد لها جوابا من نوع: كيف استطاعت القاعدة الوصول إلى أهم شخصية أمنية في السعودية؟ وكيف يمكن لمثل هذه الشخصية أن تقع في شرك قاتل؟ وفي عقر الدار؟ كيف؟ ما هو الفخ؟ وما هو الطعم؟ ومن هو المنفذ؟ وكيف تمت العملية؟ وما هي آثارها؟ وغير ذلك من الأسئلة.
ظلت الأسئلة بلا إجابات لأكثر من عام، إلى أن بثت مؤسسة الملاحم التابعة لقاعدة «الجزيرة» شريطا مصورا في 4/10/ 2010 ضمن سلسلة «فزت ورب الكعبة - 2». وبكل المعايير؛ كان الشريط فضيحة أمنية من العيار الثقيل، خاصة وهو يروي مراحل الاستطلاع والتنفيذ للعملية من ألفها إلى يائها، ويتحدث عن محاولات اغتيال جرى التخطيط لها في قلب مطار صنعاء. هكذا، وبالمقارنة تكون المخابرات الأمريكية في خوست معذورة أمام الطبيب الأردني همام البلوي الذي ظنوه عميلا لهم حتى قبل لحظات من الفتك بهم، لكن مع الأمير محمد بن نايف فقد استطلعت القاعدة الطريق إليه من اليمن إلى القصر، وحاورته وجالسته ولعلها تمتعت بنكهة الشاي والقهوة الأميرية ثم عادت إليه بنكهة البارود لولا أن حالت أقدار الله بينه وبين الموت.
حرب أمنية لا تخلو من مخاطر وغموض طالما أنها تقع في مستويات استخبارية. إلا أن القاعدة أعدت لها رجالها وخبراءها ومختبراتها وأدواتها كما تتحدث مجلة Inspire. والعجيب أنها حرب مكشوفة لم تعد تخفي فيها القاعدة نواياها ولا تهديداتها ولا وسائلها، والأسوأ من هذا وذاك أنها حرب تتسم بالعناد وتنزع إلى التحدي.
ففي مجلة Inspire الصادرة عن القاعدة باللغة الإنجليزية ثمة مقالة مثيرة للغاية عن الطرود الملغومة بعنوان: « عملية الاستنزاف» كتبها أحد المشاركين بإعداد الطرود يقول فيها: «نحن نحدد لأعدائنا خطتنا سلفا، لأننا كما أعلنا سابقا هدفنا ليس تكبيد أقصى الخسائر البشرية الممكنة وإنما لتحقيق أكبر استنزاف ممكن لصناعة الطيران». وفي بيانها عن تفجير طائرة الشحن والطرود الملغمة أعلنت القاعدة عما أسمته بـ «عبوات الاستنزاف»، وكشفت عن فاعليتها وقدرتها على التحكم بها بحيث يمكن: « ... تفجيرها في الجو، أو بعد وصولها إلى هدفها الأخير»، فضلا عن أنها: « مصممة لتتجاوز جميع أجهزة الكشف». وهددت بالقول: « ... إننا ننوي تعميم الفكرة على إخواننا المجاهدين في العالم، وتوسيع دائرة تطبيقها لتشمل الطائرات المدنية في الغرب، إضافة إلى طائرات الشحن». ورغم كل هذا الانكشاف إلا أن القاعدة تصل إلى أهدافها. حقا أمر يدعو للعجب!
حرب على الحوثيين
«الزيدية» في اليمن على النقيض تماما من الحوثية. فالأولى تنتسب إلى الإمام زيد بن علي بن الحسين بن علي رضي الله عنهم، ولا تختلف إلا بتقديمها آل البيت رضوان الله عليهم على ما عداهم من المسلمين. وتبعا لذلك فالزيدية امتداد أصيل لأهل السنة، وليس في عقائدهم ما يشين إلا من جهل أو التبس عليه الأمر من العامة وضل ضلالا بعيدا. أما «الحوثية» فهي طائفة منشقة تعود جذور نشأتها الأولى، وللمفارقة، إلى تلميذ الإمام زيد الشهير بأبي العبد الجارودي مؤسس ما يعرف تاريخيا بالفرقة «الجارودية» التي كان لها السبق في تبني فكرة ولاية الفقيه ومن ثم المذهب الجعفري الاثنى عشري. لذا ليس غريبا أن يتبرأ علماء الزيدية من «الجارودية» وتجلياتها، ومن الحرب التي شنها الحوثيون سنة 2004 على السلطة في مناطق صعدة الجبلية شمالي البلاد. وليس عجيبا أن تتسمى جولات الصراع من بدايتها إلى آخرها بـ «الحرب الحوثية» بعيدا عن أية صلة عقدية أو مذهبية بأهل السنة. ولو كانت تعبيرا عن احتجاجات شعبية ضد مظالم النظام وفساده السياسي والاجتماعي لما اتخذت الحرب هذه التسمية الطائفية الدالة عليها وعلى أهدافها.
ما أن اندلعت الجولة السادسة من الحرب، في السنة الماضية، بمشاركة السعوديين، الذين تكبدوا خسائر فادحة فيها؛ حتى وجدت القاعدة نفسها واقعة رغم أنفها بين اتهامات لها بالتحالف مع الحوثيين وأخرى مع الأنظمة السياسية الحاكمة. وهو ما لم تكن تتمناه أو تسعى إليه فضلا عن أن تُضرَب به، بعكس الحوثيين الذين صبت مثل هذه الاتهامات في سلتهم مباشرة ودون جهد جهيد. فإذا ما تدخلت القاعدة ضد الحوثيين رموها بتهمة الدفاع عن الأنظمة، ولو نأت بنفسها عن الصراع سيكون من السهل إلصاق التهمة التقليدية بها كمتواطئة أو حليفة خفية لإيران وللحوثيين الروافض. وفي كلا الحالتين ستدفع القاعدة ثمن التفريط بأهل السنة، وهي التي تزعم الدفاع عنهم. والواقع أن الكتابات، إلا من أعمل عقله واحترم قلمه، تقاسمت المهمة وجرى تسويق الاتهامين ضدها كلٌّ بحسب قراءته أو ميوله أو أجندته.
فجأة، توقفت الحرب السادسة رغم تهديدات وزير الخارجية الإيرانية منو شهر متكي من مغبة تدخل دول الجوار ضد الحوثيين، وكأن المسألة الحوثية وصعدة والجوف والأراضي السعودية صارت شأنا إيرانيا داخليا! ورغم أن القوات السعودية واليمنية تلقتا صفعات قاسية على يد المقاتلين الحوثيين الذين استطاعوا التوغل في الأراضي السعودية بعمق 40 كم، فضلا عن تهديد عشرات القرى السنية. لكن يبدو أن قاعدة بذهنية «الزرقاوي »؛ ما كان لها أن تبتلع الاتهامات ولا سطوة الحوثيين على أهل السنة. ومع ذلك ما كان لها في ذلك الحين إلا أن تكظم غيظها بانتظار تنقية الساحة الإعلامية والنفسية من المواقف وشوائب الاتهامات، حتى إذا ما حان الموعد نفذت ضربتها وحصدت ثمار محصولها بالكامل دون أن يشاركها به أحد.
هكذا، وفي صباح يوم 23/10/2010 نفذت القاعدة ضربة أمنية غير مسبوقة ضد الحوثيين في محافظة الجوف عبر سيارة مفخخة أسفر انفجارها عن مقتل 20 عنصرا منهم بينهم عدد من كبار القيادات، من بينها حسين هضبان أحد مؤسسي الجماعة بالمحافظة، إضافة إلى نجل قائد الحوثيين عبدالله العزي عبدان. وفي اليوم التالي نفذت هجوما آخر على معقل الحوثيين في منطقة ضحيان بمحافظة صعدة خلال تشييع ضحايا انفجار الأمس.
في البيان الأول (25/10) تبنت القاعدة الهجوم باسم: «عمليات الدفاع عن أهل السنة»، وبررت عملياتها ضد الحوثيين بـ: «فشل حكومتي صنعاء والرياض في التصدي للحوثيين والروافض»، زيادة على أن: «الجيش السعودي واليمني لا يمثلون أهل السنة» والأهم: (1) «تركهم لأهل السنة يواجهون مصيرهم المجهول» و (2) «دفاعا عن عرض نبينا صلى الله عليه وآله وسلم وصحابته الكرام »، و (3) « دفاعا عن إخواننا من أهل السنة بعدما رأيناهم يقتلون، وتنتهك أعراضهم، وتهدم بيوتهم، ويهجرون من منازلهم ومناطقهم، ولا ناصر لهم»، وأعلنت عن: (4) «تشكيل وحدات خاصة للدفاع عن إخواننا من أهل السنة»، ودعت (5) «أبناء أهل السنة للالتحاق بكتائب الدفاع .. لمواجهة الخطر الشيعي القادم»، واعتبرت (6) «الحوثيين الروافض هم هدف مشروع»، كما طلبت من (7) «أهل السنة أن يتجنبوا تجمعاتهم ومواكبهم .. (وكذا دعت) المغرر بهم أن يتركوا الحوثيين الروافض قبل فوات الأوان».
هذا البيان الذي يحدد سياسة القاعدة المستقبلية ونواياها تجاه الحوثيين؛ وهذه النقاط التي تبدو، في ظاهرها، تقليدية ومملة للقارئ الباحث عن نتائج سريعة وساخنة، لا يمكن قراءتها على أنها مجرد إعلان حرب فحسب، بل في كونها ستشكل حصانة وركيزة للقاعدة لجهة تدخلها في أية مواجهة قادمة مع الحوثيين دون أن تضطر إلى تحمل وزر أية اتهامات أو شبهات محتملة، خاصة وأنها تخطط لما أسمته هي بـ : «عمليات الدفاع عن أهل السنة»، والواقعة ضمن ما قالت في بيانها أنه: «سلسلة استئصال النبتة الخبيثة التي زرعها الشيعة الإيرانيون الروافض في صعدة وما جاورها».
إذن سياسة القاعدة في اليمن ضد الحوثيين تمثل منعطفا خطيرا جدا، وبالغة الحرج لاسيما للقوى السياسية المتورطة في الحرب الحوثية سواء المحلية أو الإقليمية. فبعد الهزائم المتكررة للجيوش الرسمية والقلق المزمن الذي خلفته الحرب خاصة مع التدخل الفظ للإيرانيين، فضلا عما زرعته الحوثية من موطئ قدم على جانبي الحدود اليمنية – السعودية يأتي تدخل القاعدة على هذا النحو، ليخلط الأوراق ويعرقل خطط التلاعب الدولي في المنطقة. فالحرب التي تندلع في الوقت الذي تشاء فيه أمريكا وإيران ثم تتوقف بذات المشيئة وجدت لها من يفسد عليها عملها في منطقة مهددة بالابتلاع والتقسيم والتفكيك. تدخل القاعدة لا ريب أنه يفيد السعودية واليمن فيما يتعلق بالضغط على الحوثيين والإيرانيين. لكن مصدر الحرج لهما يكمن في منطق القاعدة الذي لا يتقبل هذا ولا ذاك، ولا يعنيه من المستفيد من القوى السياسية لأنه ببساطة لا يعترف، أصلا، بمبدأ تقاطع المصالح، لا مع الحوثيين ولا مع الحكومات.
المهم أن الحوثيين في هذه الجولة خسروا كثيرا بالتدخل المفاجئ للقاعدة، وعلى هذا النحو الشرس. فالضربة صممت تصميما أمنيا محكما لدرجة أن الحوثيين بدوا في صدمة من هول المفاجأة التي أوقعها الحدث بهم. فهم في هذه الفترة على وفاق مع السلطة اليمنية، حتى أنهم قاموا بتسليم بعض عناصر القاعدة للأمن اليمني في صعدة. وبسبب جهلهم بالجهة المنفذة، لم يجدوا إلا جهاز المخابرات الإسرائيلية «الموساد» ليحملوه مسؤولية الهجوم. كما أنها ضربة صممت بحيث لا تمس سنيا في منطقة يتداخل فيها السني والشيعي، وكشفت، إلى حد ما، عن هوية الحرب مع الحوثيين. والأهم أن الضربة جرى إعدادها وتنفيذها بمحتوى عقدي في الصميم لمّا اختارت القاعدة يوم الاحتفال السنوي بما يسمى عيد « الغدير» عند الشيعة. و«الغدير» هو المكان الذي يبني عليه الروافض فكرة ولاية الفقيه، ويزعمون أن الرسول صلى الله عليه وسلم ولى علي بن أب طالب رضي الله عنه الولاية على المسلمين من بعده فيما اشتهر عندهم بـ «حديث الغدير».
وفي المحصلة، فإن ما حققته القاعدة في هذه الضربة لم تحققه القوى المحلية والإقليمية، ولو أنها توقفت عند هذا الحد لكان أخف بلوى على الحوثيين مما ورد في البيان الثاني الذي صدر بعد يومين (27/10)، وأعلنت فيه القاعدة أنها تلقت معلومات من موقع الحدث، لم ترد في البيان الأول حتى تم التأكد منها، تفيد بأن بدر الدين حسين الحوثي (86 عاما)، والد زعيم الحوثين عبد الملك الحوثي ووريث «الجارودية» ومرجعها، قتل في الهجوم الأول. وفي حين أعلنت مصادر حوثية عن خبر وفاته بعد يومين من انفجار مواكب «الغدير» (25/10)، بفعل مرض الربو؛ قال بيان القاعدة أن جنازة المرجع تم تشييعها في اليوم التالي للهجوم، وهو ما يرجح مقتله فعلا وليس وفاته.
حرب العولقي
ثمة نوعين من الحرب الدعوية الشرعية التي تدور رحاها في الجزيرة العربية انطلاقا من اليمن. الأولى هي تلك التي تضطلع بها قاعدة الجزيرة، وتتوجه نحو السعوديين واليمنيين على السواء أكثر مما تتوجه إلى الأمة. ومن أبرز رموز دعاتها إبراهيم الربيش وعادل العباب ومحمد الراشد. وهؤلاء يساندهم سعيد الشهري (أبو سفيان الأزدي) وقاسم الريمي (أبو هريرة الصنعاني) بالإضافة إلى ناصر الوحيشي أمير التنظيم. أما الثانية، وهي الأخطر على الخصوم، فيقودها الشيخ أنور العولقي، وتتوجه نحو الأمة الإسلامية بكل مكوناتها وشرائحها ومكاناتها السياسية والعلمية.
المتتبع لسيرة العولقي ونشاطه الدعوي لا ريب أنه لاحظ أداءه التاريخي البعيد عن أي ارتباط تنظيمي من أي نوع كان. وحتى بعد أن أعلن عداءه للأمركيين، وحرض على قتلهم، ودافع عن الجهاد والمجاهدين، لم يتخلَّ العولقي عن كونه داعية، ولم يعلن أنه من القاعدة، ولم تعلن القاعدة أنه عضو فيها. كل ما في الأمر أنها استأثرت منه بمقابلة حصرية لم تفز بها أية وسيلة إعلامية في الوقت الذي كان فيه على العولقي أن يتحدث، وأعلنت عن استعدادها لتقديم الحماية له بعد أن صار مطلوبا للأمركيين حيا أو ميتا.
السلطات اليمنية تعلم أن الاتهامات الأمريكية الموجهة ضد العولقي لا تستند إلى أية أدلة دامغة بأنه عضو في القاعدة. ولما أجرت معه مؤسسة الملاحم الإعلامية لقاءها الشهير في 23/5/2010 قدمته بصريح العبارة باسم: «اللقاء المرئي مع الشيخ الداعية أنور العولقي». ولما أدرجت الولايات المتحد اسمه على قائمة المستهدفين بالتصفية، بعد إجازة الكونغرس لقتل مواطنين أمريكيين، أصدرت مؤسسة الملاحم بيانا لأمير القاعدة ناصر الوحيشي بعنوان: «نصرة للشيخ أنور العولقي – 16/5/2010» واصفا إياه بـ: «الداعية البطل الصادع بالحق»، ولم يصفه بابن القاعدة ولا بأحد قياداتها أو شيوخها أو مرشديها.
من المعروف أن الأشرطة المرئية التي تبثها المؤسسات الإعلامية للجماعات الجهادية، كـ «الأندلس» والفرقان» و «الملاحم» و«المأسدة» وغيرها تكون عادة موقعة، بدايةً ونهايةً، باسم الجهة الصادرة عنها، وغالبا ما يتم تذييلها بعبارة «مركز الفجر» للدلالة على سلامة الإصدار والجهة التي أصدرته، باعتباره المؤسسة الإعلامية ذات العلامة المميزة. لكن في آخر شريط مرئي للعولقي نشرته الشبكات الجهادية بعنوان: « لتبيننه للناس ولا تكتمونه - أنور العولقي 8/11/2010»، ظهر فيه العولقي مباشرة دون أن يتضمن أي توقيع لا في البداية ولا في نهاية الشريط! وكل ما تضمنه الشريط في بدايته البسملة، وعنوان الشريط، وصفة صاحبه «الشيخ الداعية» واسمه.
فرادة العولقي وتميزه وقوته كائنة بصفته داعية لا عضوا في القاعدة. هذه هي الكلمة السحرية التي يمكن بها الولوج إلى عقلية العولقي أكثر من ذي قبل. وفي السياق لا بد من ملاحظة أنه ثمة فرق كبير بين من يؤيد القاعدة أو يتعاطف معها ويدعو لها بالنصر وينتشي بأفعالها ضد الأمريكيين وبين من ينتسب إليها عضويا، ويتحمل قانونيا وشرعيا مسؤولية العضوية. وثمة فرق أكبر بين من يحمل هَمّ القاعدة ومن يحمل هَمّ الأمة. وهذا رصيد نحسب أن العولقي أدركه فلم يفرط به حتى اللحظة. وهذا ما يزعج الخصوم والأعداء وليس كون العولقي عضوا في القاعدة أو لا.
ولأنه داعية نجده يوجه خطابه إلى الناس عامة وليس إلى الخاصة، ويستعمل المفردات والمصطلحات الشرعية الجاذبة وليس شقيقتها «المنفرة». ففي شريطه الأخير الآنف الذكر قدم العولقي عرضا قصيرا عن حال الأمة، لكنه، كعادته، بالغ الحجة والبيان. لكن، وعلى قاعدة لكل مقام مقال، لم يستعمل فيه قط مفردات من نوع «كافر» أو « مرتد». ففي كل المحاور التي تعرض لها استعمل لغة الدعوة وابتعد كلية عن لغة التيار الجهادي العالمي التي تتقدم فيها لغة الحكم الشرعي على لغة الدعوة. وكنموذج على البراعة في المزج ما بين السياسي والشرعي، وكغيره من كثير من الناس، لم يترك صفة سياسية قبيحة إلا وألصقها بالحكام والمسؤولين، لكنه بيَّن عدم مشروعيتهم السياسية مستعملا، بدهاء، عبارة « ولاة الأمر»، وفي نفس الوقت طالب علماء الأمة بـ: «تبيين التوصيف الشرعي الصحيح لحكّام العالم الإسلامي».
هذه لغة داعية لم يتجاوز فيها حتى العلماء، رغم أنه دعاهم إلى الجلوس في البيوت إذا كانوا عاجزين عن قول الحقيقة والقيام بواجب الأمانة الملقاة عليهم: «لتبيننه للناس ولا تكتمونه». ولو كان العولقي عضوا في القاعدة لما خشي الإعلان عن ذلك خاصة بعد الإعلان عن استهدافه أمريكيا. ولو كان التحريض على قتل الأمريكيين تهمة لَعنَى ذلك أن أمة الإسلام صديقة للأمريكيين ولكل قوة عدوانية أو غازية. والثابت أن مواقف العولقي الفردية من الأمريكيين لا تختلف عن مواقف الكثير من رموز الأمة أو قياداتها التي تطالب بمقاومة الأمريكيين واليهود وكل من يعتدي على حياضها أو يسلب ثرواتها، بما في ذلك القوى الوطنية والقومية وحتى ما تبقى من القوى اليسارية. ولو وسعنا الدائرة أكثر لكان على الأمريكيين أن يحددوا ما إذا كان هؤلاء والمصلون في المساجد يستحقون القتل خاصة أنهم لا يتوقفون عن تمني هزيمة الأمريكيين وأمريكا والطلب من الله عز وجل لـ «تدميرها» أو «زلزلة الأرض من تحتها».
مرة أخرى! منطق الأمريكيين في استهداف العولقي يكمن في خطابه الموجه للأمة بوصفه داعية مؤثر لا بوصفه عضوا في تنظيم القاعدة. هذه التهمة ليست سوى محاولة لحشره في زاوية « التطرف» و « الخطر» و« التحريض على القتل والكراهية»، حتى يكون لمطاردته أو اعتقاله أو حصاره أو التنكيل به أو قتله مشروعية اجتماعية وسياسية وقانونية وحتى شرعية لدى من يروقهم التخلص من العولقي من بني جلدتنا. لكن هذه التهمة أيضا من الصعب تمريرها إلا إذا نجحت الولايات المتحدة بتجريده من صفة «الداعية» التي يتمتع بها منذ عمله في الدعوة ليس إلا. أما منطق العولقي في الإصرار على صفته هذه فهو ذات المنطق الذي يتمتع به المئات من المشايخ والدعاة الذين عليهم أن يدفعوا ثمنا باهظا إذا ما أفضوا بسرائرهم أو ما اعتقدوا أنه الحق. وأهمية منطق العولقي يكمن في قدرة الناس على تحمل الموقف الشرعي من داعية دون خشية من العواقب أكثر من قدرتهم على تحمله من مشايخ الجهاد الموصومين بـ « الإرهاب». لكن هذا المنطق خطر على مصالح الدول، وغير مقبول محليا ولا دوليا. فكيف يكون الأمر إذن مقبولا من رجل شهدت له الأعداء بالقدرة الفائقة على الإقناع لدرجة أن أحدهم وصفه بـ « مغناطيس المتطرفين»! هذه هي حرب العولقي. الدعوة خارج أسراب « ملا برادلي»!
أخيرا
أبرز الانطباعات تجاه ما يميز حروب قاعدة « الجزيرة » أن كل حرب منها تبدو، في الميدان، وكأنها منفصلة عن الأخرى. فالحرب ضد الجيش مختلفة عن الحرب الأمنية ضد رموز وقوى الأمن والسلطات المحلية في السعودية واليمن. والحرب ضد الغرب كأنها من قاعدة غير قاعدة « الجزيرة ». والحرب ضد الحوثيين صار لها ميدانها الخاص ورجالها ووسائلها وأدواتها المختلفة. أما حرب العولقي فهي جبهة فريدة سواء على مستوى الدعوة أو على مستوى العلاقات الاجتماعية بين القبائل.
إلى أين سيصل أمر القاعدة في الجزيرة؟ لا ندري. كل ما نعرفه أننا إزاء تجربة مثيرة حرّم أصحابها وخصومهم على الساحة العلمية الاقتراب منها والغوص في أعماقها. لذا ليس لنا من الأمر إلا نكتفي بمراقبة ما يجري. وحتى هذه ليست بتلك الضمانة لمن هم في قلب الحدث، وإلا فإن مصيره لن يكون بأفضل من مصير الصحفي اليمني عبد الإله الشائع.
http://www.almoraqeb.net/main/articles-action-show-id-256.htm
القادسية- المساهمات : 329
تاريخ التسجيل : 07/04/2009
مواضيع مماثلة
» ملاحظات منهجية في قراءة «السلفية الجهادية»...د. أكرم حجازي
» صفعات صينية - د. أكرم حجازي
» مراجعات ابن تيمية... أكرم حجازي
» سيناريوهات المشروع الجهادي...د. أكرم حجازي
» كاميليا وملحمة التوحيد...د. أكرم حجازي
» صفعات صينية - د. أكرم حجازي
» مراجعات ابن تيمية... أكرم حجازي
» سيناريوهات المشروع الجهادي...د. أكرم حجازي
» كاميليا وملحمة التوحيد...د. أكرم حجازي
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الإثنين سبتمبر 02, 2013 10:48 am من طرف الحقيقية
» نساعدك فى تخطى ازمات حياتك
الجمعة أكتوبر 12, 2012 12:48 pm من طرف علاج نفسى
» وهل يعلم العراقيون سبب التدفق اليهودي الغريب الى كركوك وشراء العقارات فيها بخمس أضعافها!؟
الخميس مايو 31, 2012 1:39 pm من طرف القادسية
» نداء عاجل الى الشعب المصري الثائر: الاحزاب والجيش وقناة الجزيرة تخدعك وتسرق ثورتك خدمة لاسرائيل وامريكا
الإثنين يونيو 13, 2011 3:58 pm من طرف القادسية
» كاميليا وملحمة التوحيد...د. أكرم حجازي
الخميس مايو 12, 2011 12:17 am من طرف القادسية
» بين رسالة هارون الرشيد لملك الروم ورسالة القذافى لأوباما
السبت مايو 07, 2011 6:53 pm من طرف ايلاف
» أذن أيمن مترى وروح الشهيدة سلوى وأطفالها
الأحد أبريل 24, 2011 5:55 pm من طرف ايلاف
» تقسيم ليبيا
الإثنين أبريل 11, 2011 7:01 am من طرف ايلاف
» رسالة إلى نيرون قطر ...ارسلها محمد تامالت
الجمعة مارس 25, 2011 7:44 pm من طرف القادسية